للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وفي «الفَوَائِد الظَّهِيرِيَّة» (١)، وعن عيسى بن أبان -رحمه الله- أنهُ قالَ: قْلتُ لمُحَمَّد -رحمه الله-: هذه المجنونةُ فقالَ: لا بلْ الجبورةُ، أي: المُكْرَهَةُ، فقلتُ: ألا تجعلْها مجبورةً فقالَ: بلى، ثُمَّ قالُ: كيفَ وقدْ سارتْ بها الرِكَابُ دَعُوهَا (٢)، ولنا أنَّ النسيانَ يغلبُ وجُودُهُ، ولِأَنَّ الناسِيَ مخصوصٌ عن القياسِ بالأثرِ فلا يلحقُ بهِ ما ليسَ في معناهُ، والمتنازعُ فيهِ ليسَ في معناهُ؛ لِأَنهُ لا صُنعَ لهُ في النسيانِ، وباعتبارهِ يُخرِجُ الفِعْلَ مِن أنْ يكونَ مُضافًا إليهِ كما قالَ -عليه الصلاة والسلام-: «أنَّ اللهَ أطعمكَ، وسَقاكَ» (٣).

فقدْ أضافَ الفِعلُ إلى اللِه، وهاهنا الفعلُ مضافٌ إلى الزَّوجِ الذي جامَعَها، وإلى من صَبّ في حَلْقِ النائِمِ، وما يكونُ مُضافًا إلى صُنعِ العبادِ لا يكونُ بمنزلةِ مالا صُنِعَ للعبدِ فيهِ. ألا ترى أنَّ المريضَ إذَا صلَّى قاعِدًا لا يلزمُهُ القضاءُ إذا بَرَأَ، بخلافِ المُقَيّدِ إذا صلّى قاعِدًا، ثُمَّ أُطلقَ حيثُ يجبُ عليهِ القضاءُ، واللهُ أعلمُ بالصوابِ (٤).

فصل: فيما يُوجبه على نفسهِ

لمَاَّ فرغَ مِن بيانِ ما أَوْجَبَ اللهُ على العبادِ، شرعَ في بيانِ ما أوجبَ العبادُ على أنفسِهِم؛ إذ هذا فرعٌ على ما أوجبَ اللهُ على العبادِ؛ لأنّ إيجابَ العبدِ مُعتبرٌ بإيجابِ اللهِ تعالى فكانَ مرتبًا عليهِ، والأصلُ في هذا ما ذَكَرَ شَيْخِي -رحمه الله- (٥): أنَّ النذَر لا يَصِحُّ إِلاَّ بِشُروطِ ثلاثةٍ في الأصلِ إِلاَّ إذا قامَ الدليلُ على خلافهِ:

أحدُها: أنْ يكونَ الواجبُ مِن جنسِهِ شرعًا.

والثاني: أن يكونَ مُقصودًا لا وَسيلةً.

والثالث: أنْ لا يكونَ واجباً عليهِ في الحالِ، أو في ثاني الحالِ فلذلكَ لم يصَح النذُر بعيادة المريضِ لانعدامِ الشرطِ الأولِ، ولا بالوُضوءِ، وسجدةِ التِّلاوةِ لانعدامِ الشرطِ الثاني، ولا بصلاةِ الظَّهرِ، وغيرها منَ المفروضاتِ لانعدامِ الشرطِ الثالثِ فإنْ قلتَ: يَشْكُلُ على هذا النَذْر بالحجِ ما شاءَ، والِاعْتِكَافُ، وإعتاقُ الرقبةِ حيثُ تجبُ هذه الأشياءُ في النذِر مع أنَّ الحجًّ بصفةِ المشيِ غيرُ واجبٍ شَرْعًا، وكذلك نفسُ الإعتاقِ، ونفسُ الإعتاقِ منْ غيرِ مباشرةٍ سببٌ مُوجِبُ الإعتاقِ غيرَ واجبٍ، وكذلك الِاعْتِكَافُ غيرُ واجبٍ (٦).


(١) يُنْظَر: الْبَحْرُ الرَّائِق (٢/ ٣١٦).
(٢) يُنْظَر: فَتْحُ الْقَدِيرِ (٢/ ٣٨٥).
(٣) رَوَاهُ أبو داود في سننه، كتاب الصَّوْم، باب من أكل ناسيًا (٢٣٩٨)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. قال الألباني: صحيح.
(٤) يُنْظَر: فَتْحُ الْقَدِيرِ (٢/ ٣٨٠).
(٥) هو صاحب الهِدَايَة -رحمه الله-. يُنْظَر: البناية (٣/ ١١٣).
(٦) يُنْظَر: الْعِنَايَة شرحُ الهِدَايَة (٢/ ٣٨١)، والْبَحْرِ الرَّائِق (٢/ ٣١٧).