للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بَابُ الِاسْتِيلَادِ (١)

تناسب باب الاستيلاد بباب التّدبير ظاهرٌ؛ لما أنّ لكلّ واحد من المدبّر وأمّ الولد حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لَا حَقِيقَتَهَا، وأن عِتق كل واحد منهما متعلّق بموت المولى، وأن في كل واحد منهما الملك كامل، والرق ناقص بخلاف المكاتب؛ لكن مناسبة التّدبير بالعتاق أكثر من الاستيلاد؛ لما أن كلّ واحد من التّدبير والعتاق يثبت بالقول نفسه إنشاءً.

[٤١٦/ أ] بخلاف الاستيلاد فإنّ دعوى الاستيلاد إنّما ثبت بناءً على وجود الولد على وجه الإخبار لا على وجه الإنشاء، فلذلك قدّم باب التّدبير على باب الاستيلاد ليكون أقرب ما هو أكثر نسبة بباب العتاق، والاستيلاد (٢) وطلب الولد، فأمّ الولد من الأسماء الغالبة، كالصّغيرة والكبيرة في الصّفات الغالبة ومن/ الأسماء الغالبة أيضًا البيت للكعبة والنّجمُ للثريا، فكان في هذا كلّه خروج من العموم إلى الخصوص.

قوله: «لا يجوز بيعها) (٣) وهو قول جمهور الفقهاء، وكان بشر المريسي وداود ومن تابعه من أصحاب الظّواهر يقولون يجوز بيعها (٤)؛ لأنّ الماليّة والمحليّة للبيع قبل الولادة معلومة فيها بيقين، فلا يرتفع إلا بيقين مثله، وخبر الواحد لا يوجب علم اليقين، ولكنّا نقول في معارضة هذا الكلام: لما حبلت (٥) من المولى امتنع بيعها بيقين، فلا يرتفع ذلك إلا بيقين مثله، ولا بيقين (٦) بعد انفصال الولد، فإن (٧) قال: إنما امتنع بيعها؛ لأنّ في بطنها ولدًا حرًا، وقد علمنا انفصاله عنها. قلنا: لا، كذلك بل امتنع بيعها لثبوت الحريّة في جزء منها؛ فإنّ الولد يعلّق من المائين حرّ الأصل، وماؤها جزء منها، وثبوت الحريّة بجزء منها مانع من بيعها، وهذا المعنى لا يرتفع بالانفصال.

وإليه أشار عمر -رضي الله عنه- فقال: «أبعد ما اختلطت لحومكم بلحومهنّ ودماؤكم بدمائهن؟» (٨) وإنّما امتنع بيعها؛ لأنّها صارت منسوبة إليه بواسطة الولد؛ لأنّه يقال: أم ولده. وهذه النسبة توجب العتق، فتمنع البيع ضرورةً، وبالانفصال يتقرّر هذا المعنى، ولا يرتفع. ثم الآثار المشهورة تدل على ذلك، فمنها: حديث عكرمة (٩) عن ابن عباس -رضي الله عنهم- أنّ النبي -عليه السلام- قال: «أي أمة ولدت من سيّدها فهي معتقة عن دبر منه» (١٠) ولما ولدت مارية (١١) إبراهيم من رسول الله -عليه السلام- قيل لرسول الله -عليه السلام-: ألا تعتقها؟ قال: «قد أعتقها ولدها». (١٢) ففي هذين الحديثين دليل استحقاق العتق لها، وذلك يمنع البيع كما في المدبّر). كذا في المبسوط (١٣).


(١) الاستيلاد: طلب المَولى الولد من أمته بالوطء.
انظر: درر الحكام (٢/ ١٩)، البحر الرائق (٤/ ٢٩١)، تبيين الحقائق (٣/ ١٠٠)، بدائع الصنائع (٤/ ١٢٣).
(٢) " والاستيلاد " في (ب) الاستيلاد.
(٣) إِذا ولدت الْأمة من مَوْلَاهَا فقد صَارَت أم ولد لَهُ لَا يجوز بيعهَا وَلَا تمليكها.
انظر: بداية المبتدي (١/ ٩٥).
(٤) " يجوز " هكذا في (ب) وفي (أ) بيعهما، والصواب ما في (ب).
(٥) حبلت الحَبَلُ: هوالحَمْلُ. انظر: الصحاح (٤/ ١٦٦٥)، (حبل).
(٦) "ولا بيقين" هكذا في (أ) و (ب)، والصواب: يقين، كما جاء في المبسوط: ولا يقين بعد انفصال الولد.
انظر: المبسوط للسرخسي (٧/ ١٤٩).
(٧) " فإن " في (ب) قال، والصواب ما في (أ).
(٨) سبق تخريجه ص (١٥٣).
(٩) مولى ابن عباس، أبو عبد الله المدني البربري الأصل المفسر، أحد الثقات الأثبات، توفي سنة سبع ومائة، وقيل: سنة عشرة ومائة. انظر: تهذيب التهذيب (٧/ ٢٦٣)، وتقريب التهذيب (٢٤٢).
(١٠) سبق تخريجه ص (٢٠٧).
(١١) هي مَارية بنت شَمْعون القِبْطية، أُمّ إبراهيم وَلَد النبي -صلى الله عليه وسلم-. أهداها المقوقس صاحب إسكندرية مصر، ومعها أختها شيرين وخصي يقال له مأبور وبغلة، فوهب رسول الله شيرين لحَسَّان بن ثابت فولدت له عبد الرحمن بن حَسَّان. توفيت مارية في خلافة عمر سنة ست عشرة في المحرم، وكان عمر بنفسه يخبر الناس لشهود جنازتها، وصلى عليها عمر ودفنت بالبقيع.
انظر: أسد الغابة في معرفة الصحابة للأبو الحسن الشيباني (٧/ ١٥٩)، الاستيعاب في معرفة الأصحاب للقرطبي (٤/ ١٨٦٨).
(١٢) عن عكرمة، عن ابن عبَّاسٍ، قال: لمَّا ولدت أُمُّ إبراهيم، قال: قال سول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا»، اللفظ للدار قطني (٥/ ٢٣١)، كتاب المكاتب، رقم (١٩) رقم الحديث (٤٢٣٣)، والحديث في: سنن ابن ماجه = (٢/ ٨٤١)، كتاب العتق، رقم (١٩) باب أمهات الأولاد، رقم (٢)، رقم الحديث (٢٥١٦)، المستدرك على الصحيحين (٢/ ٢٣)، كتاب البيوع، رقم الحديث (٢١٩١). وقد أخرجوه من طريق حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله ابن عباس عن عكرمة عن ابن عباس. وضعف الحديث البوصيري، والشوكاني، والألباني؛ لضعف حسين المذكور، وقال الحاكم في مستدركه عن هذا الحديث: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذَّهبي بأن حسينا متروك.
انظر: المستدرك على الصحيحين مع التلخيص للذَّهبي (٢/ ٢١٩١)؛ مصباح الزجاجة (٣/ ٩٧)؛ نيل الأوطار (٦/ ٢٢١)؛ إرواء الغليل (٦/ ١٨٦ - ١٨٧).
(١٣) انظر المبسوط للسرخسي (٧/ ١٤٩).