للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ولو ماتَ ولدُهُ الصغيرُ، أو مملوكُهُ يومَ الفِطْرِ لم يسقطْ عنه؛ لأنّ الواجبَ إذا مال مطلق بخلاف الزَّكَاةِ،] ولا يسقطُ بتأخيرِ الأداءِ، وإنْ افتقَر (١)؛ لأنها متعلقةٌ بالذمةِ دُونَ المالِ بخلافِ الزَّكَاةِ (٢) كذا ذكره الإمام الولوالجي -رحمه الله- (٣)، وقاضي خان (٤)، واللهُ أعلمُ.

[كتاب الصيام]

[من حِكمِ الصِّيَام]

أخّرَ الصَّوْم (٥) عنِ الزَّكَاةِ (٦) معَ أنّهُ عبادةٌ بِدنيةٌ كالصَّلَاةِ إِلاَّ أَنَّهُ يجري مجَرى الوسيلةِ؛ لأنَّهُ عبادةٌ رياضيةٌ لمِاَ عُرِفَ في الأمرِ، والرياضةُ وسيلةٌ إلى المقاصدِ، ولكنْ لا على وجهٍ يتوقفُ أمرُ المقاصدِ إليه، وجوازاً بخلافِ الطَّهارةِ في حقِّ الصَّلَاةِ، وانحطاطُ درجةِ الوسيلةِ عن المقصودِ ظاهرٌ، ولِأَنَّ الصَّوْمَ عبارةٌ عن الامتناعِ، والسكونِ على ما يُذْكَرُ، وذُكِرَ ما يمنع بعد ذِكْرَ ما يَثْبُتُ كذِكْرِ النَّهي بعدَ ذِكْرِ الأمرِ، ولِأَنَّ كونَهُ قربةٌ بواسطةِ قهرِ العدوِ (٧)، وهو النفْس، وقهرُ العدوِ لله جهادٌ فكانَ دُونَ الصَّلَاةِ والزَّكَاةِ] أمّا (٨) محاسِنُ الصَّوْم، فَهِيَ أنّ الصَّوْم محَمودٌ عندَ كُلِّ ذي عَقْل وبَصَرٍ، ويشهدُ على صحتهِ العقلُ والنظر، لما أنّ حقيقةَ الصَّوْم هي تَرْكُ ما تحبه النفوسُ الشهوانيةُ، واتصفَ بصفةِ الملائكةِ الرُوحانيةِ، ولو لم يكنْ فيه إِلاَّ ما وَرَدَ في الخبر عن الله تعالى: «الصَّوْم لي وأنا أجزي بهِ» (٩) لكانَ كافياً، إذ ما جزى الله تعالى لفعلٍ جزاءً وافياً، وذلك مَوعودٌ مِن اللهِ بالفضلِ والثوابِ بقوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (١٠)، ثُمَّ إنَّما استحقَ الصَّوْم بهذا الثوابِ على الخصوصِ، واستعلى به على سائرِ الأعمالِ مبيناً بالآثارِ، والنصوصِ؛ لأنّهُ عِبارةٌ شرعاً عن الإمساكِ عن الشهوتين: شهوةِ البطنِ (١١)، وشهوةِ الفرجِ، والجري على مقتضاها مِنْ غيرِ قذعِ (١٢) النفسِ عنهما، فهما قذع وأصلُ كُلِّ شرٍ، فكانَ الإمساكُ عنهما بإذنِ الشرعِ أُمَ كلُّ خيرٍ، ولِأَنَّ الله تعالى قهرَ البشرَ بهذا النوعِ منَ القهرِ لِعِلْمهِ أنَّ فيهم مَنْ يَدَّعِي الربوبيةَ، فلو لم يقهْرهُمْ بما ذَكرنا مِنَ الصَّوْم لادَّعى كُلُّ واحدٍ منهم الربوبيةَ، وكان شَيْخِي -رحمه الله- (١٣) كثيراً ما يقولُ: ففي تسليطِ اللهِ تعالى الجوعَ، والعطشَ على العبادِ إبطالٌ لِدَعواهُم الألوهيةِ، فإنَّ مَنْ يدَّعي الألوهيةَ مَقهورٌ بهذينِ العرضينِ حتى قهراه، وإلجاءَهُ إلى الأكلِ، والشَّربِ، وقُهِرَ بعدَهمُا، واضطَّراهُ إلى أنْ يدخُلَ إلى نَتنِ المواضِعِ، وكشفِ العورةِ، وإحساسِ النجاساتِ، ولحوقِ الذلةِ، ونتنِ الرائحةِ الكريهِة، فكيف تَصحُّ دعواهُ الربوبيةَ مع هذا الاضطرارِ بكونهِ مقهوراً لهذينِ العرضينِ بهذه الصفةِ؟! فكانَ اختيارُ الخلاصِ عن مثلِ هذهِ العاقبةِ، وإنْ قلَّ مستحسناً عندَ العقلاءِ، ومستمكناً عندَ البصُراءِ، ومنِ محاسنهِ أيضاً أنْ جوعَ بطنهِ يدِفعُ جُوعاً كثيراً منِ حواسِهِ، فإنهُ إذا أشبعَ بطُنهُ جاعَت عينهُ، ولسانُهُ، وفرجُهُ، وأركانَهُ، فالحِكْمة في تشنيعِ هذه الأشياءِ كيلا يُورِطَ صاحِبَها عندَ تجويعِها على حُفرِ الوَبال، وأَعونةِ الضَّلالِ، ومِنْ جمُلةِ محاسنهِ عِلْمُهُ حالَ الفقراءِ في جُوعِهم، فيرحَمَهُم، ويعطيهمْ ما يسَدُّ به جَوْعَتَهُمْ على ما قِيلَ ليس الخبرُ كالمعاينةِ (١٤)، ومنِ جمَلةِ محاسنهِ أيضاً موافقتُهُ مع الفقراءِ في مُقاساةِ الجُوعِ؛ إذ لا يمكنهُ إطعامُ كُلِّهِمْ لِيشبعَهُمْ كما يشبعُ فيصوم، ويوافقُ جميعَ الفقراءِ في تحمُّلِ شدائدِ الجوعِ، فيُقالُ: ثوابُ جميعِ الفقراءِ ينفعهُ، ومنه ما حُكِىَ عن بعضِ الصالحين (١٥) أنُه كانْ يخرجُ مِن/ بيتهِ في البردِ الشديدِ بإزارٍ واحدٍ، فِقيلَ له في ذلك، فقال: أَوافقُ الفقراءَ في مَقاساةِ شدةِ البردِ لما لا أقدُر على الموُاساةِ فكلهم في الكسوِة (١٦) (١٧)، ثُمَّ يُحتَاجُ هاهنا إلى معرفةِ تفسيرِ الصَّوْم لغةً، وشريعةً، وسببهُ، وشرطُهُ، وركنهُ، وحِكْمهُ (١٨).


(١) يُنْظَر: المَبْسُوط (٣/ ١٩٥)، تُحْفَةِ الْفُقَهَاء (١/ ٣٣٩).
(٢) سقطت في (ب).
(٣) يُنْظَر: فتاوى الولواجي (١/ ١٩٤).
(٤) يُنْظَر: حاشية الطحطاوي (١/ ٤٧٦)، الجوهرة النيرة (١/ ١٦٥) الْبَحْرِ الرَّائِق: (٢/ ٢٧٥).
(٥) الصَّوْم في اللغةِ: الإمساك عن الشيء والترك له، وقيل للصائم صائم: لإمساكه عن المطعم والمشرب والمنكح، وقيل للصامت: صائم، لإمساكه عن الكلام وقيل للفرس: صائم، لإمساكه عن العلف. يُنْظَر: تهذيب اللغة (١٢/ ١٨٢).
(٦) قال في البناية: ذكر مُحَمَّد -رحمه الله- في الجامع الكبير كتاب الصَّوْم عقيب كتاب الصلاة، لكون كل منهما عبادة بدنية، ولكن الزكاة ذكرت مقرونة بالصلاة في الْكِتَابِ والسنة فلذلك ذكرت عقيب الصلاة وقدمت على الصَّوْم ا. هـ يُنْظَر: البناية (٤/ ٣).
(٧) يُنْظَر: بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ٧٦)، مجمع الأنهر (١/ ٣٤٠).
(٨) هكذا في (أ) وفي (ب) (ثم).
(٩) رَوَاهُ الْبُخَارِيُ في صحيحه، كتاب اللباس، باب ما يذكر في المسك (٥٥٨٣)، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- (١١٥١).
(١٠) سورة الزمر الآية (١٠).
(١١) البطن: خلاف الظهر، وهو مذكر، ويقال: تبطنت الجارية. الصِّحَاح (٥/ ٢٠٨٠).
(١٢) القذع: الخنا والفحش وأقذع له; إذا أفحش. يُنْظَر: الصِّحَاح (٣/ ٣٩٦). الفائق في غريب الحديث والأثر (٣/ ١٦٩).
(١٣) هو حافظ الدين النسفي رحمه الله. يُنْظَر: طبقات الحنفية (١/ ٢١٣)
(١٤) هذا جزء من حديث رَوَاهُ احمد في مسنده (٣/ ٣٤١) وابن حبان في صحيحه باب بدء الخلق (١٤/ ٩٦) بلفظ عن ابن عباس -رضي الله عنه- عن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (ليس الخبر كالمعاينة قال الله لموسى: إن قومك صنعوا كذا وكذا فلما يبال فلما عاين ألقى الألواح) قال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح.
(١٥) حُكِىَ عن بشر الحافي أنه دخل عليه رجل في الشتاء فوجده جالسا يرعد وثوبه معلق على المشجب فقال له في مثل هذا الوقت ينزع الثوب أو معناه فقال يا أخي الفقراء كثير وليس لي طاقة مواساتهم بالثياب فأواسيهم بتحمل البرد. يُنْظَر: فَتْحُ الْقَدِيرِ (٢/ ٣٠١).
(١٦) سقط في (ب).
(١٧) الكُسْوة من اللِّباس وقد كَسَوته الثوبَ كَسْوا واكتَسَى - لَبِس الكُسْوة وكساهُ: ألْبَسَه، ورجلٌ كاسٍ: ذُو كُسوةٍ. يُنْظَر: المخصص لابن سيده (١/ ٣٨٠)، القاموس المحيط (ص: ١٧١٢).
(١٨) يُنْظَر: الْعِنَايَة شرحُ الهِدَايَة: ٢/ ٣٠٠، فَتْحُ الْقَدِيرِ: ٢/ ٣٠٢.