للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ألا تراك تقول إذا أردت التَّوكيد هذا ممَّا أبصرَتهُ عيني، ومما سمِعَتهُ أذني؛ ولِأنَّ القلب رئيسُ الأعضاء، والمُضغَةُ التي إن صلُحَت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه.

ولأنَّ أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح، ألا ترى أنَّ أصلَ الحسناتِ والسَّيئات الإيمانُ والكفرُ، وهما من أفعال القلوب، فلما جعل كتمان الشَّهادة من آثام القلوب، كان هو مشهودًا بأنَّ الكتمان من أعظم الذنوب (١).

[تخيير الشاهد بين الستر والكتمان في الشهادة في الحدود.]

«والشَّهادة في الحدود يُخَيَّرُ فيها الشَّاهدُ، بين السَّتر والإظهار» (٢).

فإن قيل: هذا الذي ذكره معارض لإطلاق قوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} (٣)، وغيره من النصوص المقتضية لوجوب الشَّهادة، فيما له الشَّهادة، قلنا: هذه الآية محمولةٌ على الشَّهادةِ في حقوق العباد؛ بدليل سياق الآية، وهي آية المُداينَةِ بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} (٤) إلى أن قال: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ} (٥)، وقال: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} (٦).

فكان الحديث المذكور، والدَّليل العقليُ في اقتضاء السَّتر سالمين عن المعارضة، ثم إنَّهما يَدلَّان على التَّخيير، وأفضلية الستر على ما هو المذكور في الكتاب (٧).

والمعنى فيه أنَّ الستر والكتمان إنَّما يحرم لخوف فوت حق المدَّعي، المحتاج إلى إحياء حقِّه من الأموال، وذلك في حقوق العباد، وأمَّا الحدودُ فحقُّ الله تعالى، وهو تعالى موصوف بالغنى والكرم، وليس فيه خوفُ فوتِ حقِّه، فجاز لذلك على الشاهد أنْ يختار جانب السَّتر، وكان هو أفضل صيانةً لهتك عرض أخيه المسلم.

إلَّا أنَّه يجب أن يشهد بالمال في السَّرقة، فيقول: أخذ ولا يقول: سرق؛ لأنَّه اجتمع فرضيَّةُ أداء الشَّهادة مع أفضليَّة ترك الأداء، وفي هذا الوجه الذي ذكر عمل بهما، فكان هذا الوجه أولى في الأداء، وأمَّا إذا اختار جانب إقامة حد السَّرقة، فلا يشهد هكذا، بل يشهد أنَّه سَرَقَ.


(١) يُنظر: البناية شرح الهداية (٩/ ١٠٠).
(٢) الهداية (٣/ ١١٦).
(٣) سورة البقرة: آية ٢٨٣.
(٤) سورة البقرة: آية ٢٨٢.
(٥) سورة البقرة: آية ٢٨٢.
(٦) سورة البقرة: آية ٢٨٣.
(٧) يراد بإطلاق هذا اللفظ عند الحنفية أشهر المتون لديهم، وهو مختصر القدروي.
ينظر: كشف الظنون (٢/ ١٦١٩).