للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَروَىَ مُحَمَّد عن أبي حنيفةَ -رحمه الله- أنهُ كانَ يكرُه الجوارَ بمكةَ (١)، ويقولُ: إنها ليستْ بدارِ هِجَرةِ، فإنَّ رسولَ اللهِ -عليه الصلاة والسلام- هاجَر فيها إلى المدينةِ وعلى قولِ أبي يوسفَ، ومُحَمَّد رحمهما اللهُ: لا بأسَ بذلكَ (٢)، وهو أفضلُ، وعليهِ عَمَلُ الناسِ اليوَم.

[[مكان اعتكاف المرأة]]

(أمّا المرأةُ تعتكفُ في مسجدِ بيتِها) هذا عندنا (٣)، وقالَ الشَّافِعِي -رحمه الله-: لا اعتكافَ إِلاَّ في مسجدِ جمَاعةِ الرجالِ، والنساءُ فيهِ سواءٌ (٤) قالَ: لِأَنَّ مسجدَ البيتِ ليسَ لهُ حُكْمُ المسجدِ (٥) بدليلِ جوازِ تبعه، والنومُ فوقَهُ للجُنُبِ، والحائضِ، ويَحِلُّ للجُنُبِ، والحائضِ المكثُ فيهِ كِسائرِ البقَاعِ بخلافِ المساجدِ، ولماَّ لم تثبتْ لهُ حرمةُ المساجِد لم يصلُحْ موضعُ الاعتكافِ، وهذا لِأَنَّ المقصودَ منَ الِاعْتِكَافِ تعظيمُ البقُعةِ، فيختصُّ ببقعةٍ تعظمها شرعًا، وذلك لا يُوجد في مساجدِ البيوتِ، ولنا أنَّ موضِعَ أدل الاعتكاف في حقِّ الموضِعِ الذي تكونُ صلاتهُا فيهِ أفضلُ، كما في حقِّ الرجُلِ، وصلاتهُا في مسجدِ بيتهِا أفضلُ. فإنَّ النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- لما سُئِل عن أفضلِ صَلاةِ المرأةِ قالَ: «أشدَّ مكانٍ منْ بيتِهَا ظلمة» (٦)، وفي الحديث: أنَّ النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- لما أرادَ الِاعْتِكَافَ أمرَ بُقَبِةٍ، فضُرِبَتْ في المسجدِ، فلما دَخَلَ المسجدَ رَأَى قِبابًا مَضروبةً فقالَ: «لَمِنْ هذِه»، فقالَ: لعائِشَةَ، وحفصةَ -رضي الله عنهما- فغضبَ فقالَ: «آلبرُّ يُرِدْنَ بهنَّ»، وأمرَ بقُبتهِ فنُقِضَتْ، فلم يعتكفْ في تلِكَ العشر» (٧)، فإذا كِرَهَ لَهُنَّ الِاعْتِكَافُ في المسجدِ مع أنهَّن كُنَّ يخرجْنَ إلى الجماعةِ في ذلكِ الوقتِ، فلأنْ يمُنعْنَ في زمانِنا أوَلى (٨).


(١) يُنْظَر: الفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة (٥/ ٣٢٤).
(٢) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ٢٠٩).
(٣) يُنْظَر: المَبْسُوط (٣/ ٢١٥)، تُحْفَةِ الْفُقَهَاء (١/ ٣٧٢).
(٤) يُنْظَر: الْحَاوِي (٣/ ٤٨٥)، العزيز شرح الوجيز (٦/ ٥٠٢).
(٥) وهو مذهب الحنابلة، يُنْظَر: الكافي (١/ ٤٥٤)، الإنصاف (٣/ ٢٥٨).
(٦) رَوَاهُ الْبَيْهَقِي في السنن الكبرى (٥٥٦٨ - ٣/ ١٣١)، وابن خزيمة في صحيحه (١٦٩١ - ٣/ ٩٥).
(٧) أصل الحديث متفق عليه، أخرجه الْبُخَارِيُ في صحيحه، باب اعتكاف النساء (٣/ ٤٨)، ومسلم في صحيحه، باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه (٣/ ١٧٥)، من حديث عائشة رضي الله عنها، ولفظه في الْبُخَارِيُ: عن عائشة رضي اللَّه عنها: " أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أراد أن يعتكف، فلما انصرف إلى المكان الذي أراد أن يعتكف، إذا أخبية؛ خباء عائشة، وخباء حفصة، وخباء زينب، فقال: (آلبِر تقولون بهن)، ثم انصرف، فلم يعتكف، حتى اعتكف عشرا من شوال".
(٨) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ٢١٥).