للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[[حبس المديون]]

(والحبس (١) لقضاء الدين بما يختاره من الطريق) هذا جواب عن قولهما: (لأن البيع مُسْتَحَقٌّ عليه لإيفاء دينه حتى يُحبس لأجله)، أي: لأجل البيع فيقول أبو حنيفة (٢) - رحمه الله-: والحبس الذي ذكرتم ليس لأجل البيع، بل لقضاء الدين بالشيء الذي يختاره المديون من الطريق الذي ذكرنا، من الاستقراض، والاستيهاب، وسؤال الصدقة من الناس، وبيع ماله بنفسه، وكان جواز الحبس أقوى دليل لي؛ وذلك لأن العلماء لما اتفقوا (٣) على حبسه في الدين كان ذلك دليلًا على أنه ليس للقاضي ولاية بيع ماله في دينه؛ لأنه لو جاز للقاضي بيع ماله لما استقل بحبسه، بل بِيع في الحال، ويقضى دينه كما في الحبس من الإضرار به وبالغرماء في تأخير وصول حقهم إليهم، فحينئذ كان القاضي حابسًا بغير حاجة إلى الحبس وهو حرام (٤)، وكان في جواز الحبس دليل واضح على أنه لا يجوز للقاضي بيع المديون بدون رضاه، وهذا من أَحَاسِنِ القلب، حيث جعل دليل الخصم دليلًا/ تَعيَّن عليهم بأوضح بيان.

هذا الذي ذكره كله لإبطال مذهب الخصم، وأما الدليل لأبي حنيفة (٥) - رحمه الله- في إثبات مذهبه: قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ (٢٩)} (٦)، وبيع المال على المديون بغير رضاه ليس بتجارة عن تراض (٧)، وقال -عليه السلام-: «لا يحلُّ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» (٨) ونفسُهُ لا تطيب ببيع القاضي مالَه عليه، فلا ينبغي له أن يفعله عملًا بهذا الظاهر، والمعنى فيه: أن بيع المال غير مُسْتَحَقٍّ عليه؛ فلا يكون للقاضي أن يباشر ذلك عند امتناعه، كما في الإجارة (٩) والتزويج (١٠) على ما ذكرنا؛ لأن البيع غير متعيِّن عليه لقضاء الدين على ما ذكرنا، هذا كله مما أشار إليه في «المبسوط» (١١) (١٢).


(١) الْحَبْسُ لُغَةً: الْمَنْعُ، وهو ضِدُّ التَّخْلِيَةِ. المغرب مادة (ح ب س) (ص: ١٠١)، مختار الصحاح مادة (ح ب س) (ص: ٦٥) واصطلاحًا: الإمساك في المكان والمنع من الخروج. معجم لغة الفقهاء (ص: ١٧٤)، الكليات (ص: ٤٠٩).
(٢) انظر: المبسوط للسرخسي (٢٤/ ١٦٥)، بدائع الصنائع (٧/ ١٧٤).
(٣) انظر: المبسوط للسرخسي (٢٤/ ١٦٥)، بدائع الصنائع (٧/ ١٧٣).
(٤) الحرام هو المحظور: ما يَستحق بفعله العقاب، وبتركه الثواب. الفصول (٣/ ٢٤٧)، قواطع الأدلة (١/ ٢٤).
(٥) انظر: بدائع الصنائع (٧/ ١٦٩)، تبيين الحقائق (٥/ ١٩٩).
(٦) سورة النساء من آية (٢٩).
(٧) سقطت في (ع).
(٨) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الغصب، باب من غصب لوحًا فأدخله في سفينة أو بنى عليه جدارًا، (٦/ ١٦٦) برقم (١١٥٤٥)، وأخرجه الدارقطني في سننه: كِتَابُ الْبُيُوعِ (٣/ ٤٢٤) برقم (٢٨٨٦)، وأخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده، (٣/ ١٤٠) برقم (١٥٧٠). قال الألباني: (صحيح). انظر: صحيح الجامع (٢/ ١٢٦٨).
(٩) الإِجارةُ لغةً: الأُجْرَةُ: وهو الْكِرَاءُ. لسان العرب (٤/ ١٠)، واصطلاحًا: عقد على الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ. الهداية (٣/ ٢٣٠)، المغرب (ص: ٢٠)، أنيس الفقهاء (ص: ٩٦).
(١٠) التزويج: تولي المرء عقد نكاح غيره. معجم لغة الفقهاء (ص: ١٢٩).
(١١) المبسوط: لشمس الأئمة محمد بن أحمد السرخسي، استوعب فيه المؤلف جميع أبواب الفقه بأسلوب سهل وعبارة واضحة، وبسط فيه الأحكام والأدلة والمناقشة مع المقارنة مع بقية المذاهب، وخاصة المذهب الشافعي والمذهب المالكي، وهذا الكتاب شرح لكتاب الكافي للحاكم المروزي، ويعتمد عليه الحنفية في القضاء والفتوى. انظر: كشف الظنون (٢/ ١٥٨٠).
(١٢) المبسوط للسرخسي (٢٤/ ١٦٤).