للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[[من غصب استهلكه]]

قوله- رحمه الله-: (كما لو غصب ثوبًا فصبغه، ثم استهلكه يَضمَنه، ويعطي المالك ما زاد الصبغ فيه) (وهذا المعنيين أحدهما: أن الاستهلاك جناية موجبة للضمان في محل هو مال متقوّم، وقد وُجد ذلك لمَّا بقِيَ الجلد على مِلك صاحبه بعدما صار مالًا متقومًا كما في الثوب، إلا أن هناك السبب الأول هو الغصب موجب للضمان أيضًا، فله أن يضمنه بأي السببين شاء، وههنا السبب الأول وهو الغصب غير موجب للضمان، فتعيّن التضمين بالسبب الثاني، فكان هو في هذا السبب كغيره، ولو استهلكه غيره كان للمغصوب منه أن يُضَّمِن المٌستهلِك، ويعطي الغاصب ما زاد الدباغ فيه (١).

والثاني: وهو أنه لمَّا بقِيَ الجلد مضمون الرد عليه، فإذا تعذّر ردّ عينه باستهلاكه يجب عليه ردّ قيمته؛ لأنه بالاستهلاك فوَّت ما كان مُستحَقًّا عليه، والتفويت موجب للضمان بخلاف الهلاك؛ فإن التفويت لم يوجد هناك فلا يضمن، كما في المستعار، حيث يَضمَنه بالاستهلاك دون الهلاك، وكذلك لو دبغه بشيء لا قيمة له يضمنه بالاستهلاك دون الهلاك، وحُجة أبي حنيفة- رحمه الله- في ذلك: هو أن المغصوب منه استفاد المالية والتقوم في هذا الجلد من الغاصب ببدلٍ استوجبه الغاصب عليه، فلا يكون له أن يضمنه شيئًا بعد استهلاكه، كما لو استهلك البائعُ المبيعَ قبل التسليم، وتقريره من وجهين:

[[استهلاك الجلد]]

أحدهما: أن الاستهلاك غير موجب للضمان عليه باعتبار ما زاد الدباغ فيه؛ لأن ذلك كان مملوكًا له قبل الاتِّصال بالجلد، وبعد الاتِّصال بقي حقًّا له حتى كان له أن يحبسه لِيَسْتَوْفِيَ بدله، والجلد بدون هذا الوصف لا يكون مضمونًا عليه بالاستهلاك كما لو استهلكه قبل الدباغ، وبه فارق الثوب؛ فإن الاستهلاك فيه بدون صفة الصبغ موجب للضمان، وبه فارق ما إذا دبغه بشيء لا قيمة له؛ لأنّ الصنعة ما بقيت حقًّا للغاصب بعد الاتِّصال بالجلد؛ ولهذا لا يَحبسه ولا يرجع ببدله.

والثاني: ما اتَّصل بالجلد من الصفة ههنا مال متقوّم للغاصب حقيقة وحكمًا، وهو قائم من كل وجه، وقد كان مالًا قبل الاتِّصال بالجلد، وبقي بعده كذلك، وأمّا أصل الجلد فلم يكن مالًا متقومًا قبل الدِّباغ، وما كان مالًا بنفسه ومتصلًا بغيره يترجح على ما لم يكن مالًا قبل الاتصال، وإنما (٢) صار مالًا بالاتِّصال، فتكون العبرة للراجح، واستهلاكه فيه غير موجب للضمان، بخلاف الثوب؛ لأن الأصل هناك كان مالًا قبل الاتِّصال، ولمَّا استويا في صفة المالية رجحنا ما هو الأصل، وإذا دَبغَه بشيء لا قيمة له فالوصف ههنا ليس بمال لا قبل الاتِّصال ولا بعده، والأصل مال بعد الاتِّصال؛ فرجحنا جانب الأصل لهذا) كذا في «المبسوط» (٣).


(١) انظر: المبسوط للسرخسي (١١/ ١٠٦)، فتح القدير (٩/ ٣٦٤).
(٢) في (ع): (وإتمامه).
(٣) للسرخسي (١١/ ١٠٥ - ١٠٦).