للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أَثَرُ الضَّرُورَةِ فِي تَخْفِيفِ النَّجَاسَةِ]

قَوْلُهُ: (وَقَدْ أَثَّرْتْ فِي التَّخْفِيفِ مَرَّةً حَتَّى يَطْهُرَ بِالْمَسْحِ فَيَكْفِي مُؤْنَتُهَا) (١).

يَعْنِي أَثَّرَتِ الضَّرُورَةُ فِي تَخْفِيفِ الْأَرْوَاثِ، مَرَّةً حَتَّى طَهُرَ الْخُفُّ عَنْهَا، بِمُجَرَّدِ الْمَسْحِ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ كَمَا (٢) يُؤْمَرُ بِالْغَسْلِ فِي الْبَوْلِ، فَكَفِيَتْ مُؤْنَةُ الضَّرُورَةِ (٣) بِذَلِكَ التَّخْفِيفِ، فَلَا يُخَفَّفُ فِي نَجَاسَتِهَا، ثَانِيًا إِلْحَاقًا لِلْرَوْثَةِ بِالْعَذِرَةِ، [فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي الْعَذِرَةِ] (٤) كَذَلِكَ بِالاتِّفَاقِ.

فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا التَّعْلِيلُ الَّذِي ذُكِرَ هُنَا، مُخَالِفٌ لِلتَّعْلِيلِ (٥) الَّذِي ذَكَرَهُ فِي قَدْرِ الْقِرَاءَةِ (٦).

وَهُوَ قَوْلُهُ -رحمه الله-: (وَلِأَنَّ السَّفَرَ أَثَّرَ فِي إِسْقَاطِ شَطْرِ الصَّلَاةِ، فَلَأَنْ يُؤَثِّرَ فِي تَخْفِيفِ الْقِرَاءَةِ أَوْلَى) (٧) حَيْثُ (٨) اسْتَدَلَّ بِوُجُودِ التَّخْفِيفِ مَرَّةً عَلَى تَخْفِيفِهِ ثَانِيًا هُنَاكَ، وابَاهُ هُنَا، فَمَا وَجْهُهُ؟.

قُلْتُ: لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَحَزِّهِ وَمقطعه، وَذَلِكَ لِأَنَّ سُقُوطَ شَطْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، مِنْ قَبِيلِ رُخْصَةِ الْإِسْقَاطِ، وَالْحُكْمُ فِي رُخْصَةِ الْإِسْقَاطِ؛ وَهُوَ أَنْ لَا تَبْقَى (٩) الْعَزِيمَةُ مَشْرُوعَةٌ أَصْلًا، كَسُقُوطِ الْعَيْنِيَّةِ فِي السَّلَمِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ السَّاقِطُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا؛ حَتَّى لَوْ أَتَى بِالْأَرْبَعِ كَانَ الْفَرْضُ (١٠) هُوَ الرَّكْعَتَيْنِ لَا الْأَرْبَع، فَكَانَ التَّخْفِيفُ فِي الْقِرَاءَةِ، حِيْنَئِذٍ كَانَ ابْتِدَاءً لَا ثَانِياً، أَلَا تَرَى؛ أَنَّ الْمُصَنِّفَ -رحمه الله- كَيْفَ رَاعَى لَفْظَ الْإِسْقَاطِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَلَفْظَ التَّخْفِيفِ فِي قَدْرِ الْقِرَاءَةِ، إِشَارَةً إِلَى مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ التَّخْفِيفَ يَدُلُّ عَلَى شَرْعِيَّةِ التَّثْقِيلِ، فَالْحُكْمُ (١١) فِي قِرَاءَةِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، كَذَلِكَ وَالْإِسْقَاطُ؛ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ شَرْعِيَّةِ السَّاقِطِ، بِتِلْكَ الْجِهَةِ، وَالْحُكْمُ فِي شَطْرِ الصَّلَاةِ كَذَلِكَ، وأما ها هُنَا، فَعَمِلَ بِالضَّرُورَةِ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ (١٢)، فَكَفِيَتْ مُؤْنَةُ (١٣) الضَّرُورَةِ مَرَّةً؛ فَلَوْ قُلْنَا بِالتَّخْفِيفِ مَرَّةً أُخْرَى كَانَتْ تَعَدِّيًا عَنْ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ، وَرَفْعًا لِلابْتِلَاءِ؛ وَهُوَ خِلَافُ مَوْضُوعِ التَّكَالِيفِ، لِأَنَّ فِي التَّكْلِيفِ مَشَقَّةً لَا مَحَالَةَ؛ وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِتَخْفِيفِ الْقِرَاءَةِ هُنَاكَ عَمَلٌ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي الأصل كَانَ إِظْهَارُ تَأْثِيرِهِ فِي الْوَصْفِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْوَصْفَ تَابِعُ الأصل (١٤) فَيَثْبُتُ فِيهِ مَا يَثْبُتُ فِي الأصل لَا مَحَالَةَ، فَكَانَ ذَلِكَ نَظِيرُ مَا ذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ -رحمه الله- فِي تَرَخُّصِ الْمُسَافِرِ بِصَوْمِ الْقَضَاءِ، وَالْكَفَّارَةِ (١٥)؛ وَلِأَنَّ (١٦) ذَلِكَ عَمِلَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، عَلَى مَا عَرَفَ، وأما ها هُنَا فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَعْمَلَ بِالضَّرُورَةِ، فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَكَيْفَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، بَعَدَ عَمَلِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَلَا [يَتَقَاسَانِ] (١٧).


(١) قال صاحب الهداية: (قلنا الضرورة في النعال قد أثرت في التخفيف مرَّة حتى تطهر بالمسح فتكفي مؤنتها). ينظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي للمرغيناني" (١/ ٣٧).
(٢) في (ب): (لم).
(٣) في (ب): (للضرورة).
(٤) زيادة من (ب). وفي هامش (أ): (فإن الحكم بالعذرة). بنظر: " البناية شرح الهداية للعيني " (١/ ٧٣٢).
(٥) في (ب): (بالتعليل).
(٦) وفي (ب): زيادة (في السفر في فعل القراءة). الصحيح ما في النسخة (ب)، ينظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي للمرغيناني" (١/ ٥٥).
(٧) ينظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي للمرغيناني" (١/ ٥٥).
(٨) في (ب): (حين).
(٩) في (ب): (يبقى).
(١٠) الفرض: ما ثبت بدليل لا شبهة فيه-مقطوع به-واستحق العقاب على تركه، من غير عذر، والتفريق بين الفرض والواجب هو مذهب الأحناف، ورواية عن أحمد. انظر: "كشف الأسرار للبخاري: (٢/ ٣٠٠ - ٣٠٣)، "المغني" للخبازي: (٨٣ - ٨٦).
(١١) في (ب): (والحكم).
(١٢) هذه القاعدة قيد لقاعدة: " الضرورات تبيح المحظورات " للتنبيه على أن ما تدعو إليه الضرورة من المحظور إنما يرخص منه، القدر الذي تندفع به الضرورة فحسب، فإذا اضطر الإنسان لمحظور فليس له أن يتوسع في المحظور، بل يقتصر منه على قدر ما تندفع به الضرورة فقط، فالاضطرار إنما يبيح المحظورات بمقدار ما يدفع الخطر. ولا يجوز الاسترسال، ومتى زال الخطر عاد الحظر. انظر: "القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة" للزحيلي: (١/ ٢٨١).
(١٣) في (ب): (مؤنته).
(١٤) في (ب): (للأصل).
(١٥) ينظر: " الحجة على أهل المدينة للشيباني" (١/ ٣٧٨)، الآثار لمحمد بن حسن الشيباني (١/ ٢٨٩)، و"المبسوط" للسرخسي (٣/ ٦١)، "بدائع الصنائع للكاساني" (٢/ ٩٤).
(١٦) في (ب): (لأنَّ).
(١٧) في (ب): (يتفاوتان).