للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإطلاق لفظ المتبايعين عليهما في الوجهين الأولين، مجاز (١) محض؛ لأن اسم المتبايعين عليهما قبل كلاهما بالبيع والشراء كان باعتبار ما يؤول، وبعد كلامهما بالبيع والشراء كان إطلاق اسم المتبايعين (٢) عليهما باسم ما كان، وأما إذا وجب أحدهما البيع، والآخر على عرضية القبول كان ذلك الوقت وقت التبايع، فكانا متبايعين حقيقة، وذلك الوقت وقت خيار القبول، على ما ذكرنا، فكان محمولاً عليه؛ ولأن هذه الحالة حالة جامعة لما كان قبل التبايع، وما كان بعده فكانت هي أحق بحقيقة حالة التبايع.

فإن قيل: بعد وجود كلاهما أبقاهما الشارع متبايعين؛ لما أن الشارع أعطى للعقود الشرعية حكم الجواهر لما عرف.

قلنا: الباقي بعد كلامهما حكم كلاهما، لا حقيقة كلامهما؛ فإن الكلام كما وجد يضمحل ويتلاشى.

[[حقيقة التفرق في المجلس]]

فإن قلت: ففي كل واحد من المحملين -أعني ما حمله الشافعي (٣) -رحمه الله (٤) فما ذكرت/ وأما فيما حملناه (٥) فهو أن التفرق من الأوصاف، فقيام ما لا يكون إلا بالأعيان فلو أسند التفرق إلى القول يلزم قيام العرض بالعرض، وذلك لا يجوز، إلا أن يسند إليه بطريق التجوز (٦) فيجب لذلك أن يسند التفرق إلى البدن؛ ليكون قولاً بحقيقة التفرق، قلت: نعم كذلك، إلا أن إسناد التفريق والتفرق إلى غير الأعيان شايع فاشٍ في مجاري الكلام، فصار هو بسبب فشو الاستعمال (فيه) (٧) بمنْزلة الحقيقة، قال الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} (٨) وقال: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} (٩) هذان في الاعتقاد، وقال: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} (١٠)، هذا في النكاح، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة (١١)» (١٢) هذا أيضاً في الاعتقاد.


(١) المجاز: القول الذي يدل بتقدير الأصل دون تحقيقه، ومثال ذلك: سل القرية، هذا مجاز؛ لأنه يدل بتقدير الأصل، وهو قولك: سل أهل القرية، قال السرخسي: "والمجاز اسم لكل لفظ هو مستعار لشيء غير ما وضع له، مفعل من جاز يجوز، سمي مجازاً؛ لتعديه عن الموضع الذي وضع في الأصل له إلى غيره، ومنه قول الرجل لغيره: حبك إياي مجاز، أي: هو باللسان دون القلب الذي هو موضع الحب في الأصل، وهذا الوعد منك مجاز، أي: القصد منه الترويج دون التحقيق على ما عليه وضع الوعد في الأصل، ولهذا يسمى مستعاراً؛ لأن المتكلم به استعاره، وبالاستعمال فيما هو مراده بمنْزلة من استعار ثوباً للبس ولبسه، وكل واحد من النوعين موجود في كلام الله تعالى، وكلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكلام الناس، في الخطب والأشعار وغير ذلك. الواضح في أصول الفقه (١/ ١٢٧)، أصول السرخسي (١/ ١٧٠).
(٢) " المتعاقدين"في (ب).
(٣) قال في الهداية: "وقال الشافعي: يثبت لكل واحد منهما خيار المجلس". الهداية شرح بداية المبتدي (٣/ ٩٣٩)، الحاوي الكبير (٥/ ٢٢)، الإقناع (ص: ٩١)، روضة الطالبين (٣/ ٤٣٤).
(٤) "وما حملناه نوع مجاز، وأما ما حمله الشافعي" زيادة في هامش (أ) وفي هامش (ب).
(٥) "قلناه" في (ب).
(٦) "التحرز"في (ب).
(٧) في (ب).
(٨) [البينة: ٤].
(٩) [البقرة: ٢٨٥].
(١٠) [النساء: ١٣٠].
(١١) "فرقة" في (ب)، وهي الرواية الثابتة في الحديث كما في الهامش الذي يليه.
(١٢) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" أخرجه أبو دواد، أول كتاب السنة، باب شرح السنة، رقم (٤٥٩٦)، (ج ٧/ ص ٥)، وابن ماجه، أبواب الفتن، باب افتراق الأمة، رقم (٣٩٩١)، (ج ٥/ ص ١٢٨)، والترمذي، أبواب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، رقم (٢٦٤٠)، (ج ٥/ ص ٢٥) وقال الترمذي: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح".