للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأمّا الحكم الشرعي: فهو ما ذكر في الزيادات (١) (٢): أنّه إذا وهب لرجل دارًا بما فيها من الأمتعة (٣) فهلكت الأمتعة قبل أن ينقلها الموهوب له ثم اُسْتُحِقَّتْ، فَلِلْمُسْتَحِقِّ أن يُضَمِّن الموهوب له، مع أنّ الموهوب له لم يُزل الأمتعة من يد المالك؛ فعُلم بهذا أن إزالة يد المالك ليست بشرط في الغصب والضمان.

وكذلك إذا ركب دابة غيره ولم ينقلها حتّى تلفت يَضمن الراكب مع عدم النقل؛ ولأن الاستيلاء على مال الغير هو الأصل في التملُّك، لا إزالة يد المالك، فكذلك في الغصب (٤)، ألا ترى أنا نملك أراضي أهل الحرب بأيدينا المستولية على الأراضي، لا بالاستيلاء على المالك، حتى إذا فرَّ المُلاك ولم يُسترقوا نملك أراضيهم؛ ولأن الرواية منصوصة في كتاب الرجوع عن الشهادات (٥): (أنّ الشهود إذا شهدوا بدار لإنسان، وقضى القاضي بشهادتهم، ثم رجعوا ضمِنُوا قيمتها للمشهود عليه) فلا يكون شهادتهم أقوى من الغصب، فلما ضمنوا العقار بالشهادة الكاذبة ينبغي أن يَضمن الغاصب أيضًا بالغصب؛ لأنّ كل واحد منهما سبب للضمان، ما جوابنا عنه؟

[[أصل الغصب يتحقق في العقار]]

قلت (٦): أمّا الجواب عن الحديث الأوّل؛ فإنّ النبي -عليه السلام- بيَّن جزاء غاصب العقار بالوعيد في الآخرة، ولم يَذكر الضمان في الدنيا، وذلك دليل على أن المذكور جميع (٧) جزائه، ولو كان الضمان (٨) واجبًا لكان الواجب عليه أن يبيّن الضمان؛ لأنّ الحاجة إليه أمسُّ، فمن زاد عليه الضمان/ كان نسخًا، وهذا لا يجوز بالقياس، وإطلاق لفظ الغصب عليه لا يدل على تحقق الغصب فيه موجبًا للضمان؛ لأنّ في لسان الشرع حقيقة (٩) ومجازًا (١٠)، ألا ترى أنه أطلق (١١) لفظ البيع على الحر بقوله -عليه السلام-: «من باع حرًّا» (١٢)، وهذا لا يدل على أنّ (١٣) البيع الموجب لحكمه حقيقة يُتصوّر في الحرِّ، على أنّا نقول: يتحقق أصل الغصب في العقار، [ولكنَّ الغصب] (١٤) الموجب للضمان لا يتحقق؛ لأنّه مما لا يُنقل ولا يُحوَّل؛ لأنّ الضمان إنّما يجب جبرانًا للفائت من يد المالك، ولا يتحقق تفويت اليد بدون النقل؛ لأنّ يد المالك متى كانت تابعة على ماله في مكانٍ تبقى ما بقي المال في ذلك المكان (١٥) حكمًا (١٦).


(١) الزيادات في فروع الحنفية: للإمام محمد بن الحسن الشيباني (ت ١٨٩ هـ)، من كتب ظاهر الرواية، وإنما سمي به؛ لأنه كان يختلف إلى أبي يوسف، وكان يكتب من أماليه، فجرى على لسان أبي يوسف أن محمَّدًا يشق عليه تخريج المسائل، فبلغه فبناه مفرعًا، فرَّع على كل مسألة بابًا وسماه الزيادات، وهو مفقود، شرحه العتابي (مخطوط)، وشرحه قاض خان (مطبوع). انظر: كشف الظنون (٢/ ٩٦٢).
(٢) انظر: المبسوط للسرخسي (١١/ ٧٥)، الأسرار (٣/ ١٠٩)، البناية شرح الهداية (١١/ ١٩٣).
(٣) المَتاعُ: المالُ والأَثاث والجمع أمتعة. لسان العرب (٨/ ٣٣٣).
(٤) انظر: تبيين الحقائق (٥/ ٢٢٥)، حاشية ابن عابدين (٦/ ١٨٢).
(٥) المبسوط للسرخسي (١١/ ٧٦).
(٦) انظر: الأسرار (٣/ ١١٠)، المبسوط للسرخسي (١١/ ٧٤).
(٧) في (ع): (ودليل) وما أثبت هو الصحيح. انظر: المبسوط للسرخسي (١١/ ٧٤).
(٨) في (أ): (لا ضمان) وما أثبت هو الصحيح. انظر: المبسوط للسرخسي (١١/ ٧٤).
(٩) الحقيقة: هي اسْم لكل لفظ هُوَ مَوْضُوع فِي الأَصْل لشَيْء مَعْلُوم. انظر: المغني (١/ ١٣١)، الفصول في الأصول (١/ ٣٥٩)، أصول السرخسي (١/ ١٧٠).
(١٠) المجاز: هو اسْم لكل لفظ هُوَ مستعار لشَيْء غير مَا وضع لَهُ. انظر: المغني (١/ ١٣١)، الفصول في الأصول (١/ ٣٥٩)، أصول السرخسي (١/ ١٧٠).
(١١) سقطت في (ع).
(١٢) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب البيوع، باب إثم من باع حرًّا، (٣/ ٨٢) حديث (٢٢٢٧)، و كتاب الإجارة، باب إثم من منع أجرا الأجير (٣/ ٩٠) حديث (٢٢٧٠) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره".
(١٣) في (ع): زيادة (الضمان) وما أثبت هو الصحيح. انظر: المبسوط للسرخسي (١١/ ٧٤).
(١٤) سقطت في (ع).
(١٥) في (ع): (المال) وما أثبت هو الصحيح. انظر: المبسوط للسرخسي (١١/ ٧٤).
(١٦) انظر: المبسوط للسرخسي (١١/ ٧٤)، بدائع الصنائع (٧/ ١٤٨).