للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[باب قضاء الفوائت]

لما فرغ من بيان أحكام الأداء وما يتعلق به، وهو الأصل شرع في بيان أحكام القضاء، وهو خلف عنه إذ الأداء عبارة عن تسليم نفس الواجب بسببه إلى مستحقه، والقضاء عبارة عن تسليم مثل الواجب به (١)، فالتسليم لمثل الواجب إنما يكون عند العجز عن التسليم نفسه كما في المضمونات من حقوق العباد، فكان خلفًا، فلذلك كان ذكره بعد ذكر الأصل كما هو حقه، ومن فاتته صلاة قضاها إذا ذكرها، فكذلك الحكم إذا فوت صلاة عمدًا لكن للمسلم عقلًا ودينًا (٢) يرد عامة عن التفويت قصدًا ظاهرًا، فعبّر عنه بالفوت لذلك تحسينًا للظن به، وحملًا لأمره على الصلاح، وكذلك في الحديث: «من نام عن صلاة أو نسيها» (٣)، فإن الحكم غير مقتصر على النوم والنسيان؛ لأنه إذا ترك فسقًا ومجانة يجب القضاء أيضًا بالإجماع، لكن أخرجه صاحب الشرع مخرج تحسين العبارة والظن بالخير (٤).

قوله رحمه الله: لِأَنَّ كُلَّ فَرْضٍ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا لِغَيْرِهِ قياسًا على الصيامات المتروكة والزكوات وسائر العبادات، وذلك لأن شرط الشيء تبع له ولا أصالة تنافي التبعية، والشيء لا يجتمع مع ما ينافيه، فإن قلت: يشكل على هذا الإيمان لسائر العبادات والصوم للاعتكاف، فإن الإيمان أصل بنفسه، وهو رأس العبادات حتى يحصل بالإيمان نفسه عندنا السعادات الأبدية، ومع ذلك هو شرط لصحة العبادات كلها، وكذلك الصوم أصل بنفسه، ومع ذلك هو شرط لصحة الاعتكاف الواجب بالاتفاق (٥).

قلت: الأصل هذا وهو أن الشيء إذا كان مقصودًا بنفسه لا يكون شرطًا له مع بقائه مقصودًا لغيره لما أن فيهما من المنافاة، ولكن إذا دل الدليل على أنه شرط لغيره يصح أن يكون شرطًا في نفسه، وما ذكره من المنافاة لا يلزم عند اختلاف الجهة، ثم كل منهما يصلح أن يكون شرطًا له مع بنائه مقصورًا في نفسه للنذر عند تعليق النذر به بأن يقول الرجل: إن صليت الظهر، فعلى صوم يوم، وهو يريد كونه كانت الصلاة شرطًا لوجوب الصوم عليه، فلما كان في جعل العبادة شرطًا لغيره صار شرطًا له، فأولى أن يصلح شرطا عند جعل الله شرطًا لغيره، ثم الله تعالى جعل الإيمان شرطًا لصحة سائر العبادات في قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} من ذكر أو أنثى {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} (٦) فلا كفران بسعيه، وكذلك نفى النبي عليه السلام صحة الاعتكاف بدون الصوم في قوله: «لا اعتكاف إلا بالصوم» (٧)، فصار كل واحد منهما شرطًا بغيره بهذين النصين لقيام الدليل، وأما فيما إذا لم يقم الدليل على غيره فهو على حقيقته، وحقيقة الشيء المقصود هي أن لا يصير شرطًا بغيرها (٨). ومن حجته أيضًا ما ذكره صاحب المحيط (٩)، أي: كل واحد من الفرضين ليس بشرط للآخر في حق الجواز، ولهذا يسقط الترتيب عند النسيان وضيق الوقت وكثرة الفوائت وشرائط الصلاة لا يسقط بعذر النسيان (ضيق الوقت) (١٠) كالطهارة واستقبال القبلة ولا يلزمن وجوب الترتيب بين الصلوات حالة الأذان؛ لأن الترتيب في أداء الصلوات في أوقاتها لضرورة الترتيب في أوقاتها، وذلك لا يوجد في الفوائت، وذلك لأنها صارت مرسلة عن الوقت ثابتة في الذمة، فكان قياس قضاء الصوم مع الأداء، ولنا ما روي ابن عمر (١١) رضي الله عنه أن النبي قال: «من نام عن صلاة أو نسيها فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فليصل التي هو فيها، ثم ليصلِّ التي ذكرها، ثم ليعيد التي صلى مع الإمام» (١٢).


(١) القضاء والأداء: الأداء: فعل الشيء أولاً في وقته المقدر له شرعاً. والقضاء: اسم لفعل مثل ما فات وقته المحدد. انظر: المحصول للرازي ١/ ١١٦، مصطلحات المذاهب ص ٥٥، ٥٨.
(٢) - ساقط من ب (ديناً)
(٣) رواه مسلم في صحيحه (٦٨٤)، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة. من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(٤) انظر: العناية شرح الهداية: ١/ ٤٨٥، والجامع الصغير وشرحه النافع: ١/ ١٠٦.
(٥) انظر: العناية شرح الهداية: ١/ ٤٨٥.
(٦) سورة الأنبياء الآية (٩٤).
(٧) أورده الزيلعي في نصب الراية لأحاديث الهداية: (٢/ ٤٨٨).
(٨) انظر: العناية شرح الهداية: ١/ ٤٨٥.
(٩) انظر: المحيط البرهاني: ٢/ ٣٣.
(١٠) - ساقط من ب (ضيق الوقت)
(١١) - في ب ابن عباس بدل من ابن عمر
(١٢) سبق تخريجه.