للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[[حكم القبلة للصائم]]

وبيان هذا ما ذَكرهُ فَخْرُ الْإِسْلَام (١)، فقالَ: إنّ حرمةَ المصاهرةِ تثبتُ على الاحتياطِ، فتعدَتْ من الحقيقةِ إلى الشُبهاتِ، وللنَسبِ شَبَهٌ بالنسبِ، ولذلك تعدَّى إلى عُقْدِ النِّكاحِ، فكذلك تعدَّى إلى المسِّ بعلةِ النسبيةِ، وذلك نصفُ الشهوةِ مْنِ غيرِ إنزالٍ؛ لأنهُ يصيرُ سبباً للوطئِ، والنظرِ إلى الفرجِ بالشهوةِ أو المسِّ بالشهوةِ يصلحُ سبُبُ بخلافِ النظرِ إلى وجهِ المرأةِ حيثُ لا تثبت به حرمةُ المصاهرةِ، وإنْ كانَ هو سبباً أيضاً كالنظرِ إلى الفرجِ؛ لعَدمِ إمكانِ الاحتراز عنهُ، وأمّا هَاهُنا فإنَّ الغُسلَ أنْ يكونَ بوجودِ المواقعةِ صورةً أو معنىً دونَ السببيةِ؛ لأنَّ الفسادَ هاهنا بالمناقضةِ يكونُ ألا ترى أنّ النكاحَ لا يفسدُ الصَّوْم، ثُمَّ المسُّ عن شهوةٍ بغير إنزالٍ ليس بمواقعةٍ لا صورةً ولا معنى، فلم تثبتْ المناقضةُ، وكذلك النظرُ إلى الفرجِ، وإنْ اتصلَ بهِ الإنزالُ فليسَ لهُ معنى المواقعةِ بالمرأةِ؛ لأنهُ ليسَ باستمتاعِ بالمرأةِ، فصارَ كالإنزالِ بالتفكُّرِ، أي: الكفارةُ تفتقرُ إلى كَمالِ الجِنايةِ لما أنَّ الكفارةَ منِ أَعلى عقوباتِ المفُطرِ لإفطارِهِ، فلا يُعاقَبُ بها إِلاَّ بعدَ بلوغِ الجنايةِ نهايتَها، ولم تبلغْ نهايتها؛ لأنَّ هاهنا جنايةً من جنسهِ أبلغُ منها، وهو الجِماعُ في الفرجِ (٢). كذا ذكرهُ الإمامُ الْإِسْبِيجَابِي -رحمه الله-. ولا بأسَ/ بالقُبلةِ إذا أَمِنَ على نفسهِ، أي: الجِماعُ، أو الإنزالِ صحتْ الرِوايةُ بكلمةٍ أو كذا في نسخة الشيخين (٣)، وإنما رَدَّدَ بينهما؛ لأَنَّ المشايخَ اختلفوا في تأويلِ قولِ مُحَمَّد -رحمه الله- (٤) إذا أَمِنَ على نفسهِ قالَ بعضُهُمْ: أرادَ بهِ الأمنُ عنِ الوقوعِ في الجماعِ، وقالَ بعضُهم: أرادَ بهِ الأمَن منِ خُروج المني، وجاءَ عُمر إلى رسولِ اللهِ -عليه الصلاة والسلام- فقالَ: «أذنبتُ ذنباً فاستغِفْر لي، فقالَ: (وما ذاك؟) فقالَ: هششْتُ إلى امرأتي وأنا صائِمٌ، ثُمَّ قبلتُها، فقالَ: (أرأيت لو تمضمضتَ بماءٍ، ثُمَّ مججتُهُ أكانَ يضُرُّكَ)، فقالَ: لا، قالَ: (فَتِمْ إذاً)» (٥)، وهذا إشارة إلى معنى بقاءِ رُكْنِ الصَّوْم، وانعدامِ انقضاءِ الشهوةِ بنفسِ التقبيلِ، فإنْ كانَ لا يأمنُ على نفسهِ فالتحرزُ أولى؛ لما رُوِيِ أنَّ شابّاً سألَ رسولَ اللهِ -عليه الصلاة والسلام- غيرَ القُبلةِ للصائِمِ فمنعُه، وسألهُ شيخٌ عن ذلك فأَذِنَ لهُ فيهِ، فنظَر القومُ بعضُهم إلى بعضٍ، فقال: «قد عَلِمْتُ لِمَ نَظَرَ بعضُكُمْ إلى بعضٍ؛ إنْ الشيخَ يمِلكُ نفسَهُ» (٦)، وهكذا رُوِيَ عن ابنِ عباسٍ فإنَّ الشابَ قالَ له: إنَّ ديني ودينَهُ واحِدٌ قالَ: «نعمْ، ولكنَّ الشيخَ يمِلكُ نفسَهُ» (٧)، وهو إشارةٌ إلى معنى تعريضِ الصَّوْم بالفسادِ بالتجاوزِ عن القُبلةِ إلى غيرِها، وقالَ رسولُ اللهِ -عليه الصلاة والسلام-: «إنَّ لِكُلِّ مَلَكٍ حِمىً، وإنَّ حمِى اللهِ محارِمُهُ، فمَنْ رَتَعَ حولَ الحِمى يُوشِكُ أنْ يقعَ فيهِ» (٨)، وعلى هذا رَوَىَ الحسُن (٩) عن أبي حنيفةَ -رحمه الله- (١٠): (أنهُ كَرِهَ المباشرةَ الفاحشةَ) للصائِمِ، وذلك بأنْ يعانِقَها، وهما متجردانِ، ويمسُّ ظاهرُ فرجْهِ ظاهِرَ فرجِهَا، كذا في «المَبْسُوط» (١١). (وجهُ الاستحسانِ أنهُ لا يُستطاعُ الامتناعُ عنهُ)، فإنَّ الصائِمَ لا يجدُ بُدّاً من أنْ يفتحَ فمَهُ فيُتحَدِثَ مع الناسِ، وما لا يمكنُ التحرزُ عنُه فهو عفوٌ.


(١) يُنْظَر: الفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة (١/ ٢٧٦).
(٢) يُنْظَر: الجوهرة النيرة (١/ ١٣٩).
(٣) هما أبي حَنِيفَةَ وأبي يوسف. يُنْظَر: الفَوَائِد البهية (٢٤٨).
(٤) يُنْظَر: فَتْحُ الْقَدِيرِ (٢/ ٣٧٧)، العناية (٢/ ٣٣٧).
(٥) رَوَاهُ أحمد في مسنده (١٣٨ - ١/ ٢١)، وابن أبي شيبة في مصنفه (٩٤٩٨ - ٣/ ٦٠). والْبَيْهَقِي في سننه الكبرى (٨٢٧٤ - ٤/ ٢١٨) وقال شعيب الأرناؤوطي: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(٦) رَوَاهُ أحمد في مسنده (٦٧٣٩ - ٢/ ١٨٥)، وقال الألباني: صحيح (السلسلة الصحيحه: ٤/ ١٣٨).
(٧) أخرجه أحمد في مسنده (٦٧٣٩ - ٢/ ١٨٥)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده ضعيف على خلاف في صحابيه.
(٨) رَوَاهُ مسلم في صحيحه (١٥٩٩)، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، من حديث النعمان بن بشير.
(٩) هو: الحسن بن زياد اللؤلؤي. يُنْظَر: (تاريخ بغداد: ٧/ ٣١٤)، و (سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاء: ٩/ ٥٤٣)، و (الأَعْلَام للزركلي: ٢/ ١٩١).
(١٠) يُنْظَر: الْمُحِيط الْبُرْهَاني (٢/ ٦٥٠)، تُحْفَةِ الْفُقَهَاء (١/ ٢١٦).
(١١) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي: ٣/ ١٠٥، ١٠٦، الفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة (١/ ٢٠٠).