للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بابُ ما يُوجبُ القضاءُ والكفارةُ

لماَّ فرغَ مِن بيانِ أنواعِ الصَّوْم في حقِّ النيةِ، وتفسيرهُ لغةً، وشرعاً، وما يتبعُها شَرَعَ في بيانِ ما يجبُ عنَد الإتيانِ بما يضادُهُ، وإذا أكلَ الصائِمُ أو شَرِبَ أو جامَعَ ناسياً لم يُفْطِرْ (١) في هذا المجموعِ لا خلافَ بيننا (٢)، وبينَ الشَّافِعِي (٣) فإنهُ ذَكَرَ في الخُلَاصَة الغزاليَّة: فإنْ جامعَ ناسياً لم يُفْطِرْ (٤)، وفي «المَبْسُوط» (٥): وقال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ -رحمه الله- (٦): إنْ أَكَلَ أو شَرِبَ لم يفطرْه (٧)، وإنْ جامَعَ ناسياً فطره قال: لأنَّ/ النصَّ وَرَدَ في الأَكْلِ، والشُّرْبِ، والجماعِ ليسَ في معناهُ وجهُ الاستحسانِ

(قولهُ -عليه الصلاة والسلام- للذي أَكَلَ وشَرِبَ ناسياً: «تُمْ على صومِك») (٨)، فإنْ قِيلَ: هذا الحديثُ معارضٌ للكتابِ فكيفَ العملُ به؛ لأنّ الكتابَ يقتضي أنْ يُفسِدَ صومِهُ؛ لأنّ المأموَر بهِ بالْكِتَابِ الصَّوْم، والصَّوْم هو الإمساكُ عن الأكلِ، والشربِ، والجماعِ، ولم يبقَ الإمساكُ لوجودِ الأكلِ حقيقةً، والحديثُ يقتضي بقاءُ الصَّوْم، والْكِتَابُ ينفيه، ولا معنى للمخالفةِ سوى هذا.

قلنا (٩): في كِتَابِ الله تعالى إشارةٌ إلى أنَّ النسيانَ مَعْفُوٌ لقولهِ تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} (١٠)، فكانَ الحديثُ موافقاً للكتابِ حينئذٍ فيعُملُ بهِ، ويحُملُ الْكِتَابُ على حالةِ العَمْد لتكونَ الدلائِلُ بأسرِهَا معمولةً، كذا نُقِلَ عن الإمامِ المحققِ مولانا حميدِ الدينِ الضريرِ -رحمه الله- (١١)، ولِأَنَّ كتابَ اللهِ تعالى يُوجبُ فسادَ الصَّوْم إذا تركَ الإتمامَ مخُتاراً؛ لأنَّ اللهَ تعالى أمرنا بذلك بقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (١٢)، والإتمامُ أنْ لا يتركَ الصَّوْم مختاراً، وهذا ليس بمختار، بل هو كالمجبول عليهِ (١٣) من قِبَل مِنْ لَهُ الحقُّ؛ لأنهُ خُلِقَ كذلك؛ لأنهُ لا يَقْدِرُ على أنْ لا ينسى، ولِأَنَّ فيه عملاً بكتاب اللهِ تعالى فإنَّ اعتبارَهُ يؤُديِ إلى الحرجِ قال اللهُ تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (١٤) (١٥)، كذا ذكرهُ الإمامُ الكاساني -رحمه الله- (١٦) (١٧).


(١) يُنْظَر: بِدَايَةُ المُبْتَدِي (١/ ٣٩).
(٢) يُنْظَر: المَبْسُوط (٣/ ١١٧)، تُحْفَةِ الْفُقَهَاء (١/ ٣٥٢).
(٣) يُنْظَر: الأم (٢/ ٩٧)، الْمَجْمُوع (٦/ ٣٢٤).
(٤) الخُلَاصَة الغزاليَّة (١/ ٢١١).
(٥) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ١١٨).
(٦) هو: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، من بني ثور بن عبد مناة، من مضر، أبو عبد الله: أمير المؤمنين في الحديث. كان سيد أهل زمانه في علوم الدين والتقوى. ولد ونشأ في الكوفة، وراوده المنصور العباسي على أن يلي الحكم، فأبى وخرج من الكوفة، فسكن مكة والمدينة، ثم طلبه المهدي، فتوارى، وانتقل إلى البصرة فمات فيها مستخفيا، له من الكتب: الجامع الكبير، والجامع الصغير.
يُنْظَر: ثقات ابن حبان (٦/ ٤٠١)، التاريخ الكبير (٦/ ٤٠١)، الجرح والتعديل (٤/ ٢٢٢).
(٧) يُنْظَر: الاستذكار (٣/ ٣١٨)، الْمُغْنِي (٣/ ٣٦).
(٨) رَوَاهُ الْبَيْهَقِي في سننه الكبرى (٨٣٢٩ - ٤/ ٢٢٩)، والدَّارقُطنيّ في سننه (٢/ ١٧٩). وقال الألباني في إرواء الغليل (٤/ ٨٦): صحيح.
(٩) يُنْظَر: بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ٩٩).
(١٠) سورة البقرة الآية (٢٨٦).
(١١) يُنْظَر: البناية شرح الهِدَايَة (٣/ ٣٦).
(١٢) سورة البقرة الآية (١٨٧).
(١٣) هكذا هي في (ب) وفي (أ) (كالمحمول على) ولعل ما أثبته هو الصواب لموافقته سياق الكلام.
(١٤) سورة الحج الآية (٧٨).
(١٥) يُنْظَر: الْعِنَايَة شرحُ الهِدَايَة: ٢/ ٣٢٧.
(١٦) هو: أبو بكر بن مسعود بن أحمد، علاء الدين. منسوب إلى كاسان بلدة بالتركستان، خلف نهر سيحون، من أهل حلب. من أئمة الحنفية. كان يسمى (ملك العلماء) أخذ عن علاء الدين السمرقندي، وشرح كتابه المشهور (تُحْفَةِ الْفُقَهَاء) تولى بعض الأعمال لنور الدين الشهيد، وتوفي بحلب. من تصانيفه: (البدائع)، و (السلطان المبين في أصول الدين).
يُنْظَر: (الجواهر المضية ٢/ ٢٤٤)، و (الأَعْلَام للزركلي: ٢/ ٧٠)، و (معجم المؤلفين: ٣/ ٧٥).
(١٧) يُنْظَر: بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ٩١).