للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[[مسألة المغمى عليه]]

ومَنْ أُغْمِيَ عليهِ في رمضانَ (١) كُلِّهِ قضاهُ (٢) إِلاَّ على قولِ الحسن البصري (٣)، فإنهُ لا قضاءَ عليهِ عندَهُ؛ لأنهُ يقولُ: سببُ وجُوبِ الأداءِ، وهو شُهودُ الشهرِ، لم يتحققْ في حقِّهِ لِزَوالِ عَقْلِهِ بالإغماءِ، ووجوبُ القضاءِ يبتني عليهِ، ولنا أنَّ الإغماءَ، وهو عذرٌ في تأخيرِ الصَّوْم إلى زوالهِ لا في إسقاِطِ، وهذا لِأَنَّ الإغماءَ يُضْعفُ القويَّ، ولا يُزِيلُ الحِمىَ، ألا ترى أنهُ لا يصيرُ موليًا عليهِ، وأنَّ رسولَ اللهَ -عليه الصلاة والسلام- ابُتِلَيَ بالإغماءِ في مرضهِ (٤)، وقدْ كانَ معصومًا عمّا يزُيل العقلَ (٥) قال الله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} (٦)، ومَنْ جَنّ رمضانَ كُلَّهُ لم يقضِهِ (٧).

قال شمسُ الأئمةِ الحلواني -رحمه الله- (٨): المرادُ مِنْ قولِه: جَنَّ رمضانَ كُلَّهُ، أيْ: فيما يمكنُهُ ابتداءَ الصَّوْم فيهِ حتى لو أفاقَ بعدَ الزوالِ من اليومِ الأخيرِ من شهرِ رمضانَ كُلَّهِ لا يلزمُهُ القضاءُ؛ لأنَّ الصَّوْم لا يصحُ فيه كالليلِ هو الصحيحُ (٩)، فهو يعتبُرهُ بالإغماءِ لمِا أنَّ الجنونَ مَرضٌ يَخِلُ العقلَ فيكونُ عُذرًا في التأخيرِ إلى زوالهِ لا في إسقاطِ الصَّوْم كالإغماءِ، ولنا قولُه -عليه الصلاة والسلام-: «رُفِعُ القلمُ عن ثلاثةٍ: عن الصبيِّ حتى يحتلمَ، وعن المجنونِ حتى يفيقَ، وعن النائمِ حتى يستيقظَ» (١٠) ومَنْ كانَ مرفوعَ القلمِ لا يُتوجهُ الخطابُ إليهِ بأداءِ الصَّوْم والقضاءُ يبتني عليه، ثُمَّ الجنونُ يزيلُ عقلَهُ، فلا يتحققُ معهُ شُهودُ الشهرِ، وهو السببُ الموجبُ للصومِ بخلافِ الإغماءِ، فإنهُ يُعجِزُه عن استعمالِ عقلهِ، ولا يزيلُهُ، فلِبَقَائِهِ جُعِل شاهِدًا للشهرِ حُكْمًا، وهو كابنِ السبيلِ تلزمُهُ الزَّكَاةُ لِقيَامِ مُلْكِهِ، وإنْ عَجَزَ عن ثباتِ يَدِهِ عليهِ بخلافِ مَنْ هَلَكَ مالُهُ فيما يقولان: لم يجبْ عليهِ الأداءُ، أيْ: أداءُ ذلكَ البعضِ مِنْ شهرِ الصَّوْم الذي وُجِدَ فيهِ الجنونُ، وصارَ كالمستوِعبِ، أيْ: في إسقاطِ الُكلِّ، وهذا بعضُهُ فيسقُطُ البعضُ، يعني: أنهُ لو استوعبَ الشهرَ كُلُّهُ مُنًعَ القضاءُ في الكُّلِ (١١)، فإذا وُجِدَ في بَعضِهِ يمُنعُ القضاءُ بعذرِهِ اعتبارًا للبعضِ بالكُّلِ قِياسًا على الصبيِّ، وهذا لِأَنَّ الصبيَّ أحسنُ حالًا مِنَ المجنونِ، فإنهُ ناقِصُ العقلِ في بعضِ أحوالِهِ والجنونُ عديمُ العقلِ، ولهذا جازَ إعتاقُ الصغيرِ عن الكفارةِ دُونَ الجنُونِ، فإذا كانَ الصِّغَرُ في بعضِ الشهرِ يمَنعُ وجُوبَ الشهرِ، يمنعُ وجُوبَ القضاءِ فالجنونُ أولى، وقولهما قِياس.


(١) يُنْظَر: بِدَايَةُ المُبْتَدِي (١/ ٤١).
(٢) يُنْظَر: بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ٨٨)، الهِدَايَة (١/ ١٢٨).
(٣) يُنْظَر: مجمع الأنهر (١/ ٣٧٢).
(٤) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ١٥٧).
(٥) رَوَاهُ الْبُخَارِيُ في صحيحه، كتاب الأذان، باب إنما جعل الإمام ليؤتم به (٦٥٥)، ومسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر (٤١٨)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
(٦) سورة القلم الآية (٢).
(٧) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ١٥٧).
(٨) يُنْظَر: الْمُحِيط الْبُرْهَاني (٢/ ٦٦٢).
(٩) يُنْظَر: الْعِنَايَة شرحُ الهِدَايَة (٣/ ٣٣٨).
(١٠) رَوَاهُ أبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدًّا (٤٤٠٠)، والترمذي في سننه، كتاب الحدود، باب فيمن لا يجب عليه الحد (١٤٢٣)، وابن ماجه في سننه، كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم (٢٠٤١)، والنسائي في سننه، كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج (٣٤٣٢). من حديث عائشة -رضي الله عنها-، قال الألباني: صحيح.
(١١) وهذا بالاتفاق، ذكره في مجمع الأنهر (١/ ٣٤٠).