للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[[إذا نذر صوم يوم النحر]]

قلتُ: هذه الصُّورَ من المستثنى الذي قامَ الدليلُ على وجُوبهِ بخلافِ القِياسِ ويَذْكُرُ دلائِلَها في مواضِعها التي تأتي.

قوله: (وإذا قالَ: للهِ عليَّ صومُ يومِ النَّحْرِ أَفْطَرَ وقَضَى) (١)، وعندَ زُفَر (٢)، والشَّافِعِي (٣) رحمهما اللهُ لا يِصحُّ نذْرُهُ، وهو رِوايةُ ابنِ المباركِ (٤) عن أبي حنيفةَ، ورَوَىَ الحسنُ عن أبي حنيفةَ (٥) قالَ: للهِ عليّ صومُ يومِ النَّحرِ لم يُصحَّ نذرُهُ، ولو قالَ: غدًا، وغداً يومُ النّحرِ صحَّ نذْرُهُ، فوجهُ رِوايةِ الحسنِ (٦) أنهُ إذا نصَّ على يومِ النَّحرِ، فقدْ صرَّحَ في نَذْرِهِ بما هو مَنِهيٌّ عنهُ فلم يصحَّ، وإذا قالَ: غدًا، فلمْ يُصرِحْ في نذرِهِ بما هو مَنِهيٌّ عنهُ فصحَّ نذْرُهُ، وهو كالمرأةِ إذا قالتْ: للهِ عليّ أنْ أَصومَ يومَ حَيضٍ لم يصحَّ نذرُهُا، ولو قالتْ: غدًا، وغدا يومُ حيضِها صحَّ نذْرُهُا، ووجهُ قولهِما أنَّ الصَّوْم غيرُ مشروعٍ في هذهِ الأيامِ، وليسَ للعبدِ شَرْعٌ ما ليسَ بمشروعٍ كالصَّوْم ليلًا، وبيانه: أنَّ الشرعَ عينَّ هذا الزمانَ للأكْلِ بقولهِ: فإنها أيامُ أَكْلٍ، وتعينُهُ لِأحَدِ الضدينِ ينفي الضَّدَ الآخرَ، ولِأَنَّ الصَّوْم في هذهِ الأيامِ منَهِيُّ عنهُ، وأدنى درجاتِ النَّهيِ عنهُ أنْ يكونَ ممنوعًا، والممنوعُ لا يكونُ مأذونَ التحصيلِ. ومِنْ شَرْطِ صِحَةِ النذرِ يكونُ المنذورُ بهِ مأَذونُ التحصيلِ، ولنا أنَّ الدلائِلَ المقتضيةَ لِشرعِيُةِ الصَّوْم لا تفصلُ بينَ صومِ وصومٍ، والنهيُ إنّما كانَ لمِعنى اتصلَ بهِ، وهو تركُ إجابةِ دعوةِ اللهِ تعالىِ، وهذا لا يُوجِبُ إعدامُ شرعيةِ ذاتِ الصَّوْم فبقيَ الصَّوْم في ذاتهِ عِبَادُةٌ، وهذا لِأَنّ المشروعاتِ أصلُها حَسَنُ عُقلًا؛ لِأَنّ العباداتِ إظهارُ الخضُوعِ للهِ تعالى، وتعظيمُ مَنْ هُو مُستحِقُ التعظيمِ، وشُكْرُ المُنْعِمِ ومتى تعلَّقِ بها نَهْيٌ يجبُ صَرْفُ ذلك النهيِ إلى مَحاورَ لها لا إليها صِيانةً عنِ التناقِضِ لِأَدلةِ الشَّرعِ، وهذا الفقهُ، وهو أنَّ الأفعالَ إنّما تَحِلُّ، وتحرمُ باعتبارِ الجهاتِ لا باعتبارِ الذَّاتِ فإنَّ الفِعْلُ لو كانَ يَحْرُمُ لِذَاتِهْ لكانتْ الأفعالُ كُلُّها حَرامًا لِكُونِها أفعالًا، ولو كانتْ تَحِلُ أيضًا باعتبارِ كونهِ فعِلًا لكانتْ الأفعالُ كُلُّها حلالًا لكونها أفعالًا ألا ترى أنَّ واحداً مِنَّا إذا سُئِلَ عن الوَطْئِ أَيَحِلُّ أمْ يحَرِمُ؟ لا يستجيزُ منْ نفسهِ أنْ يقولَ: بالحِلِّ أو بالحرمُة بِلا تعرضِ جهةِ وأقربُ نظيرِ لمسألتنا في هذا مِنْ إذا رأى حَربيًّا، ومُسلمًا فرماهما رَميةً واحدة فهذا الرْميُ يوُصَفُ بالحلِ باعتبارِ كونهِ] قتلًا للحربي، وبالحُرمة باعتبارِ كونهِ قتلًا للمُسِلم [، (٧) فكذلك هاهنا الصَّوْم في هذا اليومِ مِنْ حيثُ إنهُ تَرْكُ إجابةِ دعَوْةِ اللهِ تعالى فيهِ قَبحٌ، ومِنْ حيثُ إنهُ قَهْرٌ للنفسِ الأمارةِ بالسَّوءِ على قَصْدِ التُّقربِ إلى اللهِ تعالى حَسَنٌ فيصِحُ الندبُ بهِ لهذا، ويلزمُهُ الإفطارُ لذاكَ، فإنْ قلتَ: إنَّما يصِحُّ لحُسْنِ قَهْرِ النفسِ أنْ لو كانَ مأذونًا فيهِ حتى أنهُ لو مَنَعَ نفسَهُ مِن طعامِ نفسهِ الحلالِ حتى أشرفَ إلى الهلاكِ فهو حرامٌ لِكَوْنهِ غيرُ مأذونٍ فيهِ، وهاهنا أيضًا النهْيُ يقتضي عدمَ الإذْنِ فلا يحسُنَ القهرُ حينئذٍ قلْتُ: لا بلْ فهنا مأذونٌ منْ حيثُ أنَّ صومَهُ لا في النَّهارِ، لا الليل فإنَّ يومَ العيدِ يومٌ كسائرٍ الأيامِ في أصلِهِ.


(١) يُنْظَر: بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ١١٢)، الاختيار لتعليل المختار (١/ ١٤٥).
(٢) يُنْظَر: الكافي لابن عبدالبر (١/ ٤٦٠)، الذخيرة (٤/ ٩٤).
(٣) يُنْظَر: الأم (٢/ ٢٥٩)، روضة الطالبين (٣/ ٣١٩).
(٤) هو: عبدالله بن المبارك بن واضح الحنظلي بالولاء، التميمي، المروزي أبو عبد الرحمن: الحافظ، شيخ الاسلام، المجاهد التاجر، صاحب التصانيف والرحلات. ولد سنة ١١٨ هـ، وجمع الجديث والفقه والعربية كان من سكان خراسان، ومات بهيت (على الفرات) منصرفا من غزو الروم سنة ١٨١ هـ. له كتاب في: الجهاد.
يُنْظَر: ثقات ابن حبان (٧/ ٧)، التاريخ الكبير (٥/ ٢١٢)، الأَعْلَام للزركلي (٤/ ١١٥).
(٥) يُنْظَر: المَبْسُوط للسرخسي (٣/ ١٧٢).
(٦) يُنْظَر: المرجع السابق (٣/ ١٧٤).
(٧) سقطت في (ب).