للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإنَّما جاءَ النهْيُ باعتبارِ تُرْكِ إجابةِ دَعوةِ اللهِ تعالى، وتَرْكُ الإجابة إنَّما نَشأ مِن صفةِ هذا اليومِ، وهو كونُهُ يومٌ عيدٍ لا من أصلِهِ، فبالنظرِ إلى أصلهِ يكونُ مأذونًا في الصَّوْم/ وبالنظرِ إلى وصفهِ لا يكونُ مأذونًا فَعَمِلْنا بهما بما ذَكَرْنا مِن صِحَّةِ النَّذْرِ، ولُزومِ الإفطارِ، فإنْ قلتَ: قولنُا يومُ العيد مثلَ قولِنا يومُ الحيضِ للمرأةِ منْ حيثُ الوصفِ، ثُمَّ المرأةُ إذا نذرتْ أنَ تصوَم يوَم حيضِها لا يَصِحُّ، فينبغي أنْ لا يصِحَّ النذْرُ بصومِ يومِ العيدِ، كما لا يَصِحُ ذلكَ (١).

قلتُ: لا يُسِلّمُ أنَّ الحيضَ وَصفٌ لليوم، بلْ ذاكَ وَصْفٌ للمرأةِ لا لليومِ، ثُمَّ كونُها طاهِرَةً عن الحيض شَرْطٌ لِعَدَمِ سَبْق الأكْل، ثُمَّ الرجلُ إذا قالَ: للهِ عليَّ أنْ أصومَ يومًا أَكَلْتُ فيهِ لا يَصِحُّ حتى أنهّا إذا لم يذكَرْ الحيضَ يَصِحُ، وإنْ كانَ ذلك اليومُ يومُ حيضِها، وقد ذكرناهُ، والحجةُ الدامغةُ لنا على الشَّافِعِي فيِ بقاءِ الصَّوْم في يومِ العيدِ (٢) هي أنَّ الشَّافِعِي يقولُ للمتمتعِ أنْ يصومَ صومَ المُتعةِ في أيامِ النَّحرِ، وأيامِ التشريقِ في أظهرِ أقوالِهِ وكذلكَ الفطرُ فيها يقطعُ التتابعَ، والتتابعُ إنمّا يجبُ في أوقاتِ الصِّيَام لا في نفسِ الصيامِ؛ لأنَّ نفسَها لا تقعُ إِلاَّ متفرقةً بالليالي، فلو لم تكنْ هي أوقاتُ الصِّيَام انقطعَ التتابُع في التفُرقِ، وأمّا ما قالا (٣): إنَّ الصَّوْم غيرُ مَشروُعٍ في هذهِ الأيامِ، قلنا: عَدَمُ الشرعيةِ مُوجِبُ النَّسخِ، وموُجبُ النهيِ غيرُ موُجبِ النَّسْخِ، فلمّا كانَ موُجبَ النسخِ رُفِعَ المشروعُ، عَرفنا أنهُ ليسَ موُجبُ النهيِ رفعَ المشروعِ، والمعنى الذي لأجلهِ كانَ الصَّوْم مَشروعًا في سائرِ الأيامِ كونُ الإمساكِ لله تعالى بخلافِ العادةِ، وهذا المعنى في هذهِ الأيام أظِهرُ، والشرعُ أمرَ بالفِطْرِ فيهِ بالأكلِ، والبعال (٤)، لا أنْ جَعَلَهُ مفُطِرًا بخلافِ الليلِ فقدْ جُعِلَ مفطرًا بدخولِ الليلِ بقوله: فقد أفطرَ الصائِمُ، أكلَ أو لم يأكلْ. هذهِ فوائدُ مجَموعةٍ مِنْ شُروحِ «المَبْسُوط» (٥)، و «الْأَسْرَارِ» (٦)، و «الفَوَائِد الظَّهِيرِيَّة» (٧)، وإنْ صامَ فيهِ يخرجُ عَنْ العُهْدةَ؛ لأَنّهُ أدّاهُ كما التزمَ، والأصلُ في هذا أنَّ مُطلقَ النذرِ يتناولُ الكاملَ فلا يخرجُ عَنْ عُهَدةِ النذْرِ فيهِ بالناقصِ، وأمّا إذا كانَ نَذْرُهُ مُضافًا إلى الناقصِ فيَؤِّدي بهِ؛ لأَنهُ ما التزمَ إِلاَّ هذا القدرَ، وقد أدَّى كما التزَم كَمَنَ قالَ: للهِ عليَّ أنْ أَعْتِقَ هذهِ الرقبةَ، وهي عمياءُ، خَرَجَ عن نَذْرِهِ بإعتاقِها، وإنْ كانَ مُطلق النذْرِ، أو شيء من الواجباتِ لما يتأدّى بها، وكَمَنَ نَذَرَ أنْ يُصَلَّي عندِ طُلوعِ الشمسِ، فعليهِ أنْ يُصليِّ في وقتِ آخرَ، وإنْ صلَّى في ذلكِ الوقتِ خرجَ من مُوجبِ نذرهِ، كذا في «المَبْسُوط» (٨).


(١) يُنْظَر: الْعِنَايَة شرحُ الهِدَايَة (٢/ ٣٨١، ٣٨٢)، والمَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ١٧٤).
(٢) يُنْظَر: روضة الطالبين (٣/ ٣١٠)، مغني المحتاج (١/ ٤٣٣).
(٣) هما أبا يوسف ومُحَمَّد رحمهما الله. يُنْظَر: بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ٧٩)، حاشية ابن عابدين (٢/ ٣٧٦).
(٤) البعال: النكاح، وملاعبة الرجل أهله. غريب الحديث لابن سلام (١/ ١٨٢).
(٥) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ١٧٣ - ١٧٧).
(٦) يُنْظَر: كشف الْأَسْرَار (١/ ٤٠٥).
(٧) يُنْظَر: بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ٧٩).
(٨) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ١٧٤).