للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

واختلافُ العلماءِ يُورِثُ الشَّبهةَ لاحتمالِ أنْ يكونَ أُلحِقَ مع ذلكَ البعضِ لمكانِ الاجتهادِ في الكفارةِ نوعُ عُقوبةٍ فتندرِأُ بالشُّبهة (١)، كذا في «الفوائد»، وغيرها. وقالَ الإمامُ الْمَحْبُوبِيّ -رحمه الله- (٢) في وجهٍ: أنْ لا تلزمُهُ الكفارةُ، وإنْ كان عالمِا؛ لأن الشبهة تمكنتْ في المحلِ باعتبارِ انعدامِ رُكْنِ الصَّوْم حقيقةً، وفي مثلِ هذه الشبهةِ، العالمُ يساوي الجاهلَ، كالأَبِ إِذا وَطِئَ جاريةَ ابنهِ لا يلزمُهُ الحدُّ سواءٌ عَلِمَ حرمُتها عليهِ أو ظَنَّ أنها تَحِلُّ لهُ؛ لِأَنَّ الظنَ ما استندَ إلى دليلٍ شرعي؛ لِأَنَّ انعدامَ الرُّكنِ، إمّا بوصولِ شيءٍ إلى باطِنهِ، وبقضاءِ الشَّهوةِ، ولم يُوجدْ منهما شيءٌ لا صورةً، ولا معنى وحُكْمُ الاستقاءِ ثابِتٌ بالنَصِّ بخلافِ القياسِ، وكذا فسادُ الصَّوْم بالحيضِ، والنفاسِ مخُالِفٌ للقياسِ، وهذا ليسَ في معناهُ؛ لِأَنَّ الحيضَ يُوجِبُ الغُسلُ، وهذان (٣)، كذا في «المختلفات» (٤).

[[الحجامة هل تفطر؟]]

وذَكَر/ في «الفوائد» (٥): وإنمّا وَجَبَتْ الكفارةُ إذا لم يبلغْهُ الحديثُ؛ لِأَنّهُ ظنُّ لا في موطنِهِ؛/ لِأَنَّ الِحجَامةَ لاتضُاد الصَّوْم؛ لِأَنَّ الفِطْرِ يتعلقُ بالدُّخولِ، ولم يُوجدْ بخلافِ ما إذا أكلَ ناسِيًا لِوُجودِ الدَّخولِ هُناك، وكانَ ظنًّا في موطنهِ فافَتَرقا إِلاَّ إذا أفتاهُ فقيُهُ بالفسادِ، أيْ: فقِيُهُ يُؤخَذُ منهُ الفِقْهُ (٦)، وقالَ الإمامُ المحبوبيِ: (٧) ويُشترطُ أنَ يكونَ المفتي ممن يُؤخَذُ منهُ الفقهُ، ويُعتمدُ على فتواهُ في البلدِة، ولا مُعتبرَ بِغيرهِ. هكذا رَوَى الحسنُ عن أبي حنيفةَ -رحمه الله- (٨)، وابنُ رُستم (٩) عن محمدٍ، وبشر بنٍ الوليدِ (١٠) عن أبي يوسفَ -رحمه الله-. حينئذٍ تصُير فتوى المفُتىِ شُبْهةً (١١)، وظاهِرُ الحديث لا يَصَيرُ شبهةً، ولو بلغَهُ الحديثُ واعتمدَهُ، وهو قولُهُ -عليه الصلاة والسلام-: «أَفْطَرَ الحاجِمُ والمحجُومُ» (١٢) رُوِىَ بالواوِ، وبغيرِ الواوِ، ويُنصَبُ المحجومُ. فكذلكَ عندَ محُمدٍ، أيْ: لا تجبُ الكفارةُ (١٣)، وعن أبي يوسفَ -رحمه الله- (١٤) خلافُ ذِلكَ، أيْ: لا تسقطُ الكفارةُ عندَ أبي يوسفَ -رحمه الله- إذا بلغَهُ حديثُ الحِجَامةِ بالفِطْرِ بخلافِ فتوى المفتي بالفسادِ، فإنَّ هُناكَ تسقطُ الكفارةُ عندَ أبي يوسفَ، وقال (١٥): لِأَنَّ العامِيَّ إذا سَمِعَ حديثًا ليسَ لهُ أنْ يأخذَ بظاهرِهِ لجوازِ أنْ يكونَ مَصروفًا عن ظاهِرِهِ أو منسوخًا بخلافِ الفتوى، وإنْ عَرَفَ تأوِيلَهُ تجبُ الكفارةُ (١٦)، وتأويلُهُ: "أنَّ النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- مرَّ بهما: وهما مَعْقِل بنِ سِنانٍ مع حاجِمِهِ، وهما يَغتاَبانِ آخرَ فقالَ: «أَفطرَ الحاجِمُ، والمحجومُ» (١٧) "، أيْ: ذهبَ بِثَوابِ صَومِهِمَا الغيبةُ، وقِيلَ: الصحيحُ أنهُ غُشِىَ على المَحجومِ فَصَبَّ الحاجِمُ الماءَ في حَلْقِهِ، فقالَ -عليه الصلاة والسلام-: «أفطَر الحاجِمُ، والمحجومُ» (١٨)، أيْ: فِطْرٌه بما صنعَ بهِ فوقعَ عندَ الراوي أنهُ قالَ: «أفطرَ الحاجِمُ، والمحجومُ»، كذا في «المَبْسُوط» (١٩). لا توُرثُ الشبهةُ لمخالفتهِ القياسَ، فإنَّ الفِطْرَ مما دخلَ لا مما خَرَجَ بخلافِ قولِ مَالِكِ في أَكْل الناسِي (٢٠).


(١) يُنْظَر: الْعِنَايَة شرحُ الهِدَايَة (٢/ ٣٧٦).
(٢) يُنْظَر: اللباب شرح الْكِتَاب (١/ ٨٥).
(٣) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٤/ ٦٥).
(٤) هكذا هي في نسخ المخطوط ولم أجد هذا الكتاب، وقد سبق في كتاب الزكاة.
(٥) يُنْظَر: تَبْيِينُ الْحَقَائِق (١/ ٣٤٣).
(٦) يُنْظَر: الْعِنَايَة شرحُ الهِدَايَة: ٢/ ٣٧٧، والفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة: ١/ ٢٠٦.
(٧) يُنْظَر: تَبْيِينُ الْحَقَائِق (١٣٤٣).
(٨) يُنْظَر: المَبْسُوط للسرخسي (٣/ ١٠٢)، بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ١٠٠).
(٩) هو: إبراهيم بن رستم، أبو بكر المروزي، من مَرْو الشاهجان. فقيه حنفي من أصحاب مُحَمَّد بن الحسن. أخذ عن مُحَمَّد وغيره من أصحاب أبي حنيفة، وسمع من مالك والثوري وحماد بن سلمة وغيرهم، وعرض المأمون عليه القضاء فامتنع، وثَّقّهُ بعض أهل الحديث، وقال بعضهم: منكر الحديث، من تصانيفه: "النوادر" كتبها عن محمد.
يُنْظَر: الجواهر المضية (٢/ ٣٩٧)، معجم المؤلفين (١/ ٣١).
(١٠) هو: بشر بن الوليد بن خالد، أبو الوليد، الكِندي. والكندي نسبة إلى كندة بكسر الكاف. قبيلة مشهورة باليمن. فقيه حنفي، قاضي العراق. وهو أحد أصحاب أبي يوسف خاصة، وعنه أخذ الفقه. سمع مالكا وحمادا بن زيد وغيرهما. روى عنه أحمد بن علي الأبار وأبو يعلى الموصلي وأبو القاسم البغوي وأبو العباس الثقفي وغيرهم. قال الآجري: سألت أبا داود عنه فقال: ثقة، وقال السلمي عن الدَّارقُطنيّ: ثقة.
يُنْظَر: تاريخ بغداد (٧/ ٨٠)، سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاء (١٠/ ٦٧٣)، الجواهر المضية (١/ ١٦٦).
(١١) يُنْظَر: تَبْيِينُ الْحَقَائِق (١/ ٣٤٣).
(١٢) أخرجه أحمد في مسنده، من حديث رافع (٢٥/ ١٤٨)، ورَوَاهُ أبو داود في سننه، كتاب الصَّوْم، باب في الصائم يحتجم (٢٣٦٩)، والترمذي في سننه، كتاب الصَّوْم، باب كراهية الحجامة للصائم (٧٧٤)، وابن ماجه في سننه، كتاب الصيام، باب ما جاء في الحجامة للصائم (١٦٨٠)، وأحمد في مسنده (٢٥/ ١٤٨). وصححه الألباني في صحيح الترمذي (٢/ ٢٧٤).
(١٣) يُنْظَر: الْمُحِيط الْبُرْهَاني (٢/ ٦٦٢)، الْبَحْرُ الرَّائِق (٢/ ٣١٦).
(١٤) يُنْظَر: بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ١٠٠)، الْبَحْرُ الرَّائِق (٢/ ٣١٦).
(١٥) يُنْظَر: بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ١٠٠)، الْبَحْرُ الرَّائِق (٢/ ٣١٦).
(١٦) يُنْظَر: الْعِنَايَة شرحُ الهِدَايَة (٢/ ٣٧٧).
(١٧) سبق تخريجه، ص (٣٨٥).
(١٨) سبق تخريجه، ص (٣٨٥).
(١٩) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ١٠٣).
(٢٠) يُنْظَر: الاستذكار (٣/ ٣٥٥)، مواهب الجليل (٣/ ٣٩٩).