للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قلتُ: تعارضُ الشهادتين لم يُورِثُ الشكَّ هناكَ شَرْعًا لما أنَّ شهادةَ مِنْ شَهِدَ أنها لم تغبْ ليستْ بشهادةٍ لتَكوُنَ الشهادةُ على المنفي، والشهادةُ على النفي لا تُقبل، فبقيَتْ شهادةُ مَنْ شَهِدَ يَشْهَدُ أنَّ الشمسَ قدْ غابَتْ خاليةً عن المعارضِ، فيقبلُ. فلذلك لم تجبْ الكفارةُ لكون الأَكْلِ بعَد غُروبِ الشَّمسِ حتى أنَّ تعارُضَ الشهادتين لو كانَ في طُلوعِ الفجرِ بأنْ شَهِدَا اثنانِ على طُلوعِ الفجرِ، وشَهِدَ آخرانِ بأنهُ لم يطلعْ فأَفْطَرَ، ثُمَّ ظَهَرَ أنهُ كانُ قد طَلَعَ عليهِ القضاءُ، والكفارةُ بالاتفاقِ لهذا المعنى، وهو أنَّ المقبولَ من الشهادتينِ هو الشهادةُ على الإثباتِ، ولا تُعارِضُها الشهادةُ على النفي كما في حقوقِ العبادِ، فحينئذٍ كانَ وُجودُ الأَكْلَ منهُ بعدَ طُلوعِ الفجرِ الذي ثبتَ طُلوعُهُ بِحُجةٍ شرعيةٍ فتجبُ الكفارةُ؛ (لِأَنَّ الاشتباهَ استندَ إلى القِياسِ) (١) لما أنَّ القياسَ الصحيحَ يقتضي أنْ لا يبقى صائمًا يأكلُهُ عندَ النِّسيانِ قِيلَ: إنْ يأكلْ متُعمدًا، فإذا أَكَلَ بعدَ ذلكَ مُتعمدًا فقد أتى أَكلُه حالَهُ هو غيرُ صائِمٍ فيها، فلا تجبُ الكفارةُ، فوجهُ القياسِ هو أنَّ رُكْنَ الصَّوْم ينعدِمُ بأكلهِ ناسيًا أو عامِدًا أو بدونِ الرَّكْنِ لا يُتصوُر أداءُ العبادةِ فيفسدُ صومُهُ، وإنْ بلغُهُ الحديثُ وعَلِمَهَ، أي: وعَلِمَ بمعنى الحديثِ بأنَّ الصَّوْم لا يفسدُ بالأَكْلِ ناسِيًا، ثُمَّ أكلَ مُتعمدًا فكذلك في روايةٍ عن أبي حنيفةَ -رحمه الله- (٢)، أيْ: لا تجبُ الكفارةُ، وقال في فَتَاوَى قَاضِي خَانْ (٣): إنهُ لا كفارةَ عليهِ. هو الصحيحُ (٤).

قولُه -رحمه الله-: (لِأَنّهُ لا اشتباهَ فلا شُبهة)، أي: لا اشتباهَ في أنَّ القياسَ مَتروكٌ فلا يورثُ ذلك القياسُ المتروكُ شُبْهةً في سُقوطِ الكفارةِ. وجهُ الأولِ هو عدمُ وجُوبِ الكفارةِ، قيامُ الشُبهةِ الحُكْمِيَةِ، وهو أنَّ الشيءَ لا يبقى مع فواتِ رُكْنِهِ. يستوي في هذا الأصلِ المطرِدِ العالمُ، والجاهلُ، فلا تجبُ الكفارةُ لِذلكَ خُصوصًا ما إذْ تأيدتْ تلكَ الشَّبهةُ باختلافِ العلماءِ؛ لأنّ عندُ مَالِكٍ (٥)، وربيعةَ الرأي (٦)، وابْنُ أبي لَيْلَى (٧) يفسدُ صومُهُ بالأَكْلٍ ناسِيًا، وهو اختيارُ مُحَمَّد بنُ مُقاتل الرازي مِن أصحابنا (٨).


(١) يُنْظَر: الهِدَايَة (١/ ١٣٠).
(٢) يُنْظَر: بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ١٠٠)، الهِدَايَة (١/ ١٣٠).
(٣) يُنْظَر: فَتَاوَى قَاضَي خَانْ (١/ ١٨١).
(٤) يُنْظَر: الفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة (١/ ٢٠٣).
(٥) يُنْظَر: المدونة (١/ ٢٦٦)، التاج والإكليل (٢/ ٤٢٧).
(٦) يُنْظَر: الْمَجْمُوع (٦/ ٣٢٤)، الْمُغْنِي (٣/ ٣٦).
(٧) يُنْظَر: الْمَجْمُوع (٦/ ٣٤٨)، الْمُغْنِي (٣/ ٣٦).
(٨) يُنْظَر: الْبَحْرُ الرَّائِق (٢/ ٢٩١)، فَتْحُ الْقَدِيرِ (٢/ ٣٢٧).