للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قوله -رحمه الله-: وَالشَّرْطُ تَعْيِينُ أَحَدِ نَوْعَيْ الْبَيْنُونَةِ، جواب إشكال يرد على قوله: وَلَيْسَتْ كِنَايَاتٍ، بأن يقال: لو لم يكن كنايات لكانت صريحًا؛ إذ ألفاظ الطّلاق لايخلو عنهما على ما مرّ، وفي الصّريح لا يحتاج إلى النية، وقد احتج ههنا على أنّها كناية، فأجاب عنه وقال: شرطت النيّة لا لاعتبار أن يكون كناية عن الطّلاق، بل باعتبار أنّ هذه الألفاظ يحتمل معاني أُخَرْ سوى معنى الطّلاق، واشترطت النيّة ليتعين بها معنى الطّلاق، ثم بعد تعين جانب الطّلاق بالنية، أو بدلالة الحال كانت هذه الألفاظ عاملة بحقائقها؛ إذ الحقيقة حقيق بأن يراد قوله، وإنّما يصح الثلث جواب سؤال أيضاً، وهو أن لفظ الباين لو كان عاملاً بنفسه لما صحّ نية الثلاث عندكم، كما لا يصحّ نيّة الثلاث في قوله: أنت طالق عندكم؛ لأنّه عامل بنفسه قلنا صحّة نية الثّلاث لم ينشأ من أنّه عامل بنفسه بل نشأت من تنوع البينونة إلى غليظة وخفيفة (١).

قوله -رحمه الله-: (وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ). إشارة إلى قوله في أوائل باب إيقاع الطّلاق: وَنَحْنُ نَقُولُ: نِيَّةُ الثَّلَاثِ إنَّمَا صَحَّتْ لِكَوْنِهَا جِنْسًا، إلى آخره وَإِنْ قَالَ: لَمْ أَنْوِ بِالْبَاقِي شَيْئًا فَهِيَ ثَلَاثٌ، أي: عندنا، وعند زفر يقع واحدة (٢)، بناء على أن في قول زفر: اعتدي لا يتعيّن للطّلاق في حال مذاكرة الطّلاق بدون النيّة، وعندنا يتعيّن بدلالة الحال من غير نيّة.

فإن قيل: ينبغي أن لا يقع؛ لأنّ الكلام متى أمكن حمله على الحقيقة لا يجوز حمله على المجاز، وإن كانت الحقيقة على خلاف العادة لما عرف في مسألة لا أشرب الماء ونوى شرب جميع المياه، لا يحنث أبدًا، وهنا أمكن حمله على الحقيقة لمكان العدّة على وجه لا يخالف العادة فأولى أن لا يقع.

قلنا: الطّلاق صار مراداً بقوله اعتدي، فكان خاطراً بالبال، فيحمل الثاني والثّالث عليه وهذا؛ لأنّ اللّفظ إنّما يحمل على الحقيقة لخطرانها بالبال، وما كان أشد خطراناً بالبال كان أولى بالحمل عليه، وفي مسألة لا أشرب الماء ليس فيه داع يدعو إلى المجاز، فحمل على حقيقته فلم يحنث إلى هذا أشار في «الفوائد الظهيرية» (٣)، فَلَا يُصَدَّقُ فِي نَفْيِ النِّيَّةِ، أي: قضاء ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى لمكان الاحتمال؛ لأنّه نوى بالأوّل الإيقاع وبالثّانيوالثّالث: التكرار وإذا قال: عنيت بالأوّل الإيقاع وبالباقي الأمر بعدة واجبة، نظيره من قال لامرأته: أنت طالق وطالق وطالق (٤)، ثم قال: نويت بهنّ واحدة، فإنّه لا يصدق قضاء، ولكن يصدق ديانة، لما قلنا كذا ههنا، كذا في «الجامع الصّغير» (٥)، البرهاني وذكر الإمام شمس الأئمة السّرخسي (٦)، والإمام قاضي خان -رحمه الله- (٧) هذه المسألة على اثني عشر وجهاً، أحدها: أن يقول: لم أنو الطّلاق بشيء منها، وفي هذا كان القول قوله كما لو ذكر ذلك مرّة، والثّاني: أن يقول: نويت بالأولى الطّلاق، ولم أنو بالباقيتين شيئاً (٨)، أو يقول: نويت بالأولى والثّانية الطّلاق ولم أنو بالثالثة شيئاً، أو نويت بالكلمات كلّها الطّلاق، ففي هذه الوجوه يطلق ثلاثاً نوى بالأولى الطّلاق صار الحال مذاكرة الطّلاق، وكان الباقي طلاقاً نوى أو لم ينو؛ لأنّ الأوّل رجعي فيلحقه الباقي، والخامس: إذا قال: نويت بالأولى الطّلاق وبالباقيين الحيض، فهو مدين في القضاء، لما ذكر في الكتاب (٩)، والسّادس: أن يقول نويت بالأولىوالثّانية الطّلاق وبالثّالثة الحيض، فهو مدين أيضاً في القضاء، وتطلق ثنتين لما قلنا، والسّابع: أن يقول نويت بالأولى الطّلاق وبالثالثة الحيض ولم أنو بالثّالثة شيئاً، أو قال: نويت بالأولى الطّلاق وبالثّانية الحيض ولم أنو بالثّالثة شيئاً، فإنّها يطلق ثنتين في هذين الوجهين؛ لأنّه لما صار الحال حال مذاكرة الطّلاق وكل لفظ لم ينو فيه شيئاً فهو طلاق، وإن قال: لم أنو بالأولى والثّانية شيئاً، وعنيت بالثالثة الطّلاق فهي طلاق واحد؛ لأنّه لم يكن الحال حال مذاكرة الطّلاق غير الأولى والثّانية فلا يقع بها شيء، وإنّما يقع بالثّالثة لأجل النيّة.


(١) يُنْظَر: العناية شرح الهداية (٤/ ٧١)، والبناية شرح الهداية (٥/ ٣٧٠)، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (٣/ ٣٢٧).
(٢) يُنْظَر: البناية شرح الهداية (٥/ ٣١٠)، والجوهرة النيرة على مختصر القدوري (٢/ ٣٣).
(٣) ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (٣/ ٢٣٨).
(٤) ولو قال: أنت طالق، وطالق، وطالق، فيقع الطلقة الأولى والثانية وأما الثالثة، فإنها على صيغة الثانية عند الشافعية، وقال المالكية والحنابلة بوقوع الثلاث. ينظر: شرح مختصر خليل للخرشي (٤/ ٤٩)، نهاية المطلب في دراية المذهب (١٤/ ١٥١)، والمجموع شرح المهذب (١٧/ ٤٦)، والمغني لابن قدامة (٧/ ٣٤٦).
(٥) يُنْظَر: المبسوط للسرخسي (٦/ ٨٠)، والبناية شرح الهداية (٥/ ٣٧١)، ودرر الحكام شرح غرر الأحكام (١/ ٣٧٠).
(٦) يُنْظَر: المبسوط للسرخسي (٦/ ٨٠)، والبناية شرح الهداية (٥/ ٣٧١)، ودرر الحكام شرح غرر الأحكام (١/ ٣٧٠).
(٧) يُنْظَر: المبسوط للسرخسي (٦/ ٨٠)، والبناية شرح الهداية (٥/ ٣٧١)، ودرر الحكام شرح غرر الأحكام (١/ ٣٧٠).
(٨) يُنْظَر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (٢/ ٢١٨).
(٩) يُنْظَر: المراجع السابقة.