للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تأكَّد حقهم فيه، والإمام لا يملك ذلك؛ كما لو استولى على الأموال بدون الأراضي لم يكن له أن يُبطِل حقَّ الغانمين عنها بالردِّ عليهم، بخلاف الرِّقاب فالحق في رقابهم لم يتأكَّد/ بدليل أنَّ له أنْ يقتلهم، فكذلك يكون له أنْ يمُنَّ على رقابهم بجزية يأخذها. ثُمَّ حقُّ مصارف الخُمس ثابت بالنصّ، وفي المنِّ إبطال ذلك، ولهذا قلت أنا: تُخمَّس الجزية؛ لأنَّ فيالخمس في الرقاب كان حقًا لأرباب الخمس، فيثبت في بَدَل ذلك، وهو الجزية. وعلماؤنا يقولون: تَصرُّف الإمام وقع على وجه النظر، وبيانه: أنَّه لو قسمها بينهم اشتغلوا بالزّراعة وقعدوا عن الجهاد؛ يَكُرّ (١) عليهم العدو، وربما لا يهتدون لذلك العمل أيضًا، فإذا تركها في أيديهم وهم أعرف بذلك العملاشتغلوا بالزراعة، وأدّوا الخراج والجزية، ويصرف ذلك إلى المقاتلة، ويكونون مشغولين بالجهاد. وبهذا يتبين أنَّ فيه توفير المنفعةلأنَّ منفعة القِسمة، وإنْ كانت أعجل، فمنفعة الخراج أدوم" (٢).

وذكر في الإيضاح: وقال الشافعي: يقسِم الأراضي، ولا يتركها في أيديهم بالخراجلأنَّ الأراضي أموال، فصارت ملكًا للغانمينبالاستيلاء عليها، فلا يجوز إبطال ملكهم عنها إلا بِبَدَل يَعدِلها، والخراج لا يعدل الملك (٣).

قوله (٤): فوجبت القسمة؛ كما في المنقولات، وهذا بخلاف الرّقاب (٥) لأنَّها خُلِقت في الأصل حُرًا، والملك يثبت بعارض، فالإمام إذا استرقّهم، فقد بَدَّل حُكم الأصل، فإذا جعلهم أحرارًافقد بقي حكم الأصل مكانًا حائزًا.

ولنا حديث فتح مكَّة (٦)؛ فإنَّها فُتحت عنوة وقهرًا، وتُرِكت في أيديهم، وكذلك سواد العراقلما فُتِح في زمان عثمان (٧) -رضي الله عنه- تركها في أيدي أهلها، وضرب عليها الخراج، وكان ذلك بمحضر من الصحابة -رضي الله عنهم-. ونستدل بفصل الرقاب، فنقول: بأنه يجوز المنُّ عليهم في رقابهم بضرب الجزية، فكذا يجوز المنُّ عليهم في أراضيهم بضرب الخراج.


(١) الكَرُّ: الرُّجُوعُ. يُقَالُ: كَرَّه وكَرَّ بِنَفْسِهِ. لسان العرب (٥/ ١٣٥).
(٢) المبسوط للسرخسي (١٠/ ٤٠).
(٣) ينظرالأم للشافعي (٤/ ١٩١)، و الحاوي الكبير للماوردي (١٤/ ٢٥٩ - ٢٦٠). وعلله الشافعي بقوله: "لأنّها قد صارت بلاد المسلمين وملكًا لهم، ولم يجُز له إلّا قسمها بين أظهرهم كما صنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر فإنّه ظهر عليها".
(٤) ساقط من (ب).
(٥) في (أ) الإقرار، ولعل ما في (ب) هو الصواب لموافقته سياق كلام.
الرقاب: أي العبيد الذين ثبت في رقابهم ديون الموالي بالكتابة. طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية (ص: ١٨).
(٦) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح، فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على البياذقة، وبطن الوادي، فقال: "يا أبا هريرة، ادع لي الأنصار"، فدعوتهم، فجاءوا يهرولون، فقال: "يا معشر الأنصار، هل ترون أوباش قريش؟ " قالوا: نعم، قال: "انظروا، إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا"، وأخفى بيده ووضع يمينه على شماله، وقال: "موعدكم الصفا"، قال: فما أشرف يومئذ لهم أحد إلا أناموه، قال: وصعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصّفا، وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا، فجاء أبو سفيان، فقال: يا رسول الله، أبيدت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم، قال أبو سفيان: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن"، فقالت الأنصار: أما الرّجل فقد أخذته رأفة بعشيرته، ورغبة في قريته، ونزل الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: "قلتم: أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته، ورغبة في قريته، ألا فما اسمي إذًا؟ - ثلاث مرات - أنا محمد عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم"، قالوا: والله، ما قلنا إلا ضنا بالله ورسوله، قال: "فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم". أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة، برقم (١٧٧٩) ٣/ ١٤٠٧.
(٧) الصواب أن سواد العراق فتح في زمن عمر رضي الله عنه، وليس في زمن عثمان، فإمّا أنه تحرف من "عمر" إلى "عثمان"، أو أنّه اختلط عليه في النقل؛ فإنّه قد ورد "أن عمر -رضي الله عنه- لما فتح سواد العراق تركها على أربابها وبعث عثمان بن حنيف ليمسح الأراضي وجعل عليها حذيفة بن اليمان مشرفا … ". انظر: الاختيار لتعليل المختار (٤/ ١٤٣).