للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وذكر الإمام الأجلُّ شمس الأئمة السرخسي هذه المسألة في الجامع الصغير، ثم قال: ورَوى أصحابُ الإملاء عن أبي يوسف قال: القِصاص في العمد (١) لأنَّ بدخول المسلم في دار الحرب لا ينتقِض إحرازه نفسه بدار الإسلام، فالمسلم من أهل دار الإسلام حيث ما يكون، والقصاص مَحض حق الولي ينفرد باستيفائه من غير حاجة فيه إلى ولاية الإمام، فلا فرق حينئذٍ بين الدارين.

وَجْه ظاهر الرِّواية أنَّ الإحراز باقٍ، ولكن دار الحرب دار إباحة الدم، فيصير ذلك شبهة مُسقِطة للعقوبة (٢)؛ لأنَّ مجرَّد صورة الإباحة تَكفي لإسقاط العقوبة، وإنْ لم تَثبت حقيقةً كمَن يقول لغيره: اقتلني فيقتله.

(أما الكفارة فلإطلاق الكتاب (٣) وهو قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: ٩٢].

(على ما بيَّنَّاه) وهو قوله: (لأنَّ العصمة الثَّابتة بالإحراز بدار الإسلام لا تبطل بعارض الدخول بالأمان)، لما قلنا، وهو قوله: (لأنَّ العواقل (٤) لا تعقل العمد؛ ولأبي حنيفة أنَّ بالأسر صار تبعًا لهم) فكان أهل الحرب الأصول، والأصول غير معصومين، فكذلك ما كان تبعًا لهم.

(وصار كالمسلم الذي لم يهاجِر إلينا)، فليس في قتله إلا الكفَّارة (٥)، وفي الخطأ، فكذلك ههنا بجامع أنَّ كلَّ واحدٍ منهما تَبَع لأهل الدَّار بالتوطُّن، وبكونهما مقهورَينِ لهم بخلاف المستأمن؛ لأنَّه تمكَّن (٦) من الخروج إلى دار الإسلام، ولا يكون تبعًا لهم، فلا يبطل العصمة (٧)؛ إلى هذا أشار الإمام قاضي/ خان، والله أعلم.


(١) المرجع السابق.
(٢) ذكر في الجامع الصغير: "مسلمان دخلا دار الحرب بأمان فقتل أحدهما صاحبه عمدًا أو خطأ، فعلى القاتل الدّية في ماله وعليه الكفارة في الخطأ". الجامع الصغير (ص: ٣١٦).
(٣) يقصد كلام الله عزّ وجل.
(٤) العاقلة: عاقلة الرجل عصبته، وهم القرابة من قبل الأب الّذين يُعطونَ دِيَةَ من قتله خطًا. الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (٥/ ١٧٧١).
وقال النَّسفي: الّذين يؤدّون الدّية جمع عاقل، وصار دم فلان معقلة بضمّ القاف أي دية والمعاقل جمعها. طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية (ص: ١٦٨).
(٥) في (أ) "الكفّار"، والصحيح ما أثبته، لموافقته سياق الكلام.
(٦) في (ب) "متمكن".
(٧) العناية شرح الهداية (٦/ ٢١ - ٢٢)، البناية شرح الهداية (٧/ ٢٠٦).