للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

(وَجَبت بَدَلًا عن العِصمة أو عَن السُّكنى) وإنَّما ردَّد بينَهما لأنَّ العلماء اختلفوا في أنَّ الجزية وجبت بدلًا عمّاذا؟ قال بعضهم: بدَلًا عن العِصمة الثابتة بِعَقد الذِّمَّة؛ وبه قال الشافعي، فقال: لأنَّ الله تعالى أمر بالقِتال ومدَّهُ إلى غايةٍ، وهي إعطاء الجِزية (١)؛ كذا في الإيضاح.

وقال بعضهم: بَدَلًا عَن النُّصْرة الَّتي فَاتَت بإصرارهم على الكُفر لأنَّهم لما صاروا ِمن أهل دارِنا بقَبول الذِّمَّة، ولهذه الدَّار دارٌ معاديةٌ، وَجَبتْ عليهم القيام بنُصرتِها، ولا يصلح أبدانُهم لهذه النُّصرة، فالظَّاهر أنَّهم يميلون إلى أهل الدَّار المعادِية للموافَقة معَهم في الاعتقاد، فأَوجب الشُّرع عليهم الجزيةَ ليُؤخَذ منهم، فيُصرف إلى المقاتَلة، فيكون خَلَفًا عن النُّصرة. وقَال بعضهم: هي بَدَل عن السُّكنى في دار الإسلام لأنَّهم مع الإصرار على الشرك لا يكونون من أهل دارنا باعتبارِ الأَصل، وإِنَّما يصيرون مِن أهلِ دارِنا بما يُؤَدُّون مِن الجزية.

واخْتَار شمس الأئمة السرخسي أنَّها بَدَل عَن النُّصرة؛ ذكره في المبسوط، فقال: وهو الأصحُّ. أَلا ترى أنَّ الجزيةَ لا تُؤخذ مِن الأَعمى، والشَّيخ الفاني، والمعْتوه، والمقعَد (٢) مع أنَّهم يشارِكون في السُّكنى، ولكنْ لا يلْزمُهم أَصل النُّصرة بِبَدنهم لو كانوا مسلمِين، وكذلك لا يُؤْخذ منهم ما هو خَلَف عنه (٣).

(ولأنَّها وَجَبَت عقوبة على الكُفر … ) إلى آخره.

فإنْ قلتَ: الحقُّ ضَرْب الجزية فيما تقدَّم بالاسترقاق بالمعنى الجامع بينهما.

فقال: (ولنا أنَّه يجوز استرقاقهم، فيَجوز ضَرْب الجِزية عليهم إذْ كُلُّ واحِدٍ منهما يشتَمِلعلى سلْب النَّفس منهم)؛ ثمَّ كيف افترقا ههنا في البَقاء حيث يبقى العبد رقيقًا بعد الإسلام، ولا تَبقى الجِزية بعد الإسلام معَ أنَّ كلًا منهما في الابتداء ثبت بطريق المجازاة لكفرهم.

قلت: الفَرق بينهما ظَاهر، وهو أنَّ الجزيةَ كما تَجِب بطريق المجازاة تجب/ صلةً أيضًا، والصِّلات لا تَتِمُّ إلا بالقبض، وتبْطُل بالموت قبل التَّسليم كالنَّفقات. وكذا إذا أَسلَم فإنَّها تسقُط لما أنَّ وجوب الجِزية بطريق العُقوبة ابتداءً وبقاءً: أمَّا ابتداءً فظاهرٌ لأنَّها وَجَبت عند إصرارهم على الكُفْر؛ وأمَّا بقاءً فإنَّ إعطاءَ الجِزية فالجواب فيه أن يكون على وجه الصَّغار والمذلَّة. قال الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: ٢٩].


(١) ينظر الحاوي الكبير (١٤/ ٣٠١)، العناية شرح الهداية (٦/ ٥٣).
(٢) في (ب) "والأعمى" بعد قوله "والمقعد".
(٣) ينظر المبسوط للسرخسي (١٠/ ٧٩)، العناية شرح الهداية (٦/ ٥٣).