للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم محاسنه من حيث الحكم هي: أن الله- تعالى- لم يجعلْه خُلُوًّا عن الضمان، ومُهملًا عن البيان، بل جعل الأبدان والأموال كلها معصومة عن العدوان، وجازى الكل منهما بجزاء توجبه العرفان، وتقتضيه الهُرْمان (١)، ونطقت ألسنة مؤيدة له بصريح البيان، حيث قال النبي -عليه السلام-: «أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله؛ فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» (٢)، وفائدة العِصمة: هي ألا تُهدر الجناية، ولا تُهمل الجِباية (٣)؛ وذلك لأن بقاء الأبدان مقصود كل عاقل، ومرغوب كل نبيه وخامل (٤)، ولا بقاء لها إلا بالأموال في ظاهر الأحوال؛ فلذلك من أتلف مالًا معصومًا (٥) لم يؤخره جزاؤه إلى العقبى (٦) بل عُوجل في الأولى على ما يقتضيه الحِجَا (٧) ليتحقق ما ذكرنا من المقصود [أن لا] (٨) ينتفع المغصوب منه بالمنقود، فيُؤدي الغاصب مِثله إن كان من ذوات الأمثال، أو قيمتَه إن كان من ذوات القيم بلا إمهال؛ إذ لا إمكان لجبر الفائت، إلا لهذا القدر الثابت، في حق الناطق والصامت؛ فكان في إيجاب الضمان بهذا مراعاة حق المُتْلَف عليه، وزجر الغاصب الجافي كيلا يُقْدِم في حق القاصي والتالي؛ فإنه إذا تَأمل في هذا يَعلم أنه لا جدوى فيه سوى غضب الدَّيان، ومَقْت (٩) الرحمن، فينزجر حينئذ كيلا يكون من اللَّهْفَان (١٠)، ولا يتسم سِمة (١١) الْعَلْهَان (١٢)؛ فيحتاج ههنا إلى بيان الغصب لغةً وشرعًا، وبيان سببه، وشرطه، وحكمه، ودليل حرمته وأنواعه، ثم بيان الكتاب أغنانا عن بيانه لغةً وشرعًا، ولكن نذكر ما زِيد عليه إذا انتهينا إلى بيان لفظ الكتاب.


(١) الْهُرْمَانُ: الْعَقْلُ. مقاييس اللغة مادة (هـ ر م) (٦/ ٤٨).
(٢) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الصلاة، باب فضل استقبال القبلة (١/ ٨٧) برقم (٣٩٢)، وأخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله (١/ ٥٢) برقم (٣٥).
(٣) الجِبَايَة لغةً: وَهُوَ اسْتِخْرَاجُ الأَموال من مَظانها. لسان العرب (١٤/ ١٢٩) واصطلاحًا: جمع الدولة المال المترتب في ذمم الرعية من الزكاة والجزية والخراج ونحو ذلك. انظر: البناية شرح الهداية (٣/ ٣٥٩)، حاشية الشلبي (١/ ٢٧٣)، معجم لغة الفقهاء (ص: ١٥٩).
(٤) الخامِل: الخَفِيُّ السَّاقِطُ الَّذِي لَا نَباهة لَهُ. لسان العرب مادة (خ م ل) (١١/ ٢٢١).
(٥) المال المعصوم: المال المحترم الذي لا تجوز مصادرته أو أخذه. معجم لغة الفقهاء (ص: ٤٤١).
(٦) الْعُقْبَى: جَزَاءُ الْأُمُورِ. مختار الصحاح مادة (ع ق ب) (ص: ٢١٤).
(٧) الحِجَا، مَقْصُورٌ: الْعَقْلُ والفِطْنة. لسان العرب مادة (ح ج ا) (١٤/ ١٦٥).
(٨) في (ع): (هو).
(٩) المَقْتُ: أَشدّ البُغْض. لسان العرب (٢/ ٩٠).
(١٠) اللَّهْفَانُ: الْمُتَحَيِّرُ. مختار الصحاح مادة (ل هـ ف) (ص: ٢٨٦).
(١١) سقطت في (أ).
(١٢) الْعَلْهَان: الذي تُنَازِعه نَفْسه إِلى شيء. انظر: مقاييس اللغة مادة (ع ل هـ) (٤/ ١١١).