للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأما أَصْحَابُنَا، احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ، بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَهُوَ حَسَنٌ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» (١) واقَلُّ الْوِتْرِ وَاحِدٌ، فِي الْحِسَابِ فَقَدْ نَفَى الْحَرَجَ عَمَّنْ تَرَكَ الاسْتِنْجَاءَ أَصْلًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْتَرَضُ، وَلِأَنَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ النَّجَاسَةِ قَدْرُ الدِّرْهَمِ، أَوْ أَقَلُّ فَلَا يُفْتَرَضُ (٢) إِزَالَتُهَا مِنْ مَوْضِعِ الاسْتِنْجَاءِ، قِيَاسًا عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الْأَثَرِ بَعْدَ الْحَجَرِ، وَقِيَاسًا عَلَى اليَّسِيرِ مِنَ الدَّمِ، الَّذِي لَا يَأْخُذُهُ الْبَصَرُ، وأما الْآيَةُ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ، أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ.

وأما حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ -رضي الله عنه-، قُلْنَا الْمُرَادَ بِهِ الاسْتِحْبَابَ، بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- (٣).

وأما قَوْلُهُ (٤): بِأَنَّ كَثِيرَ هَذَا يَمْنَعُ فَقَلِيلُهُ كَذَلِكَ، قُلْنَا: يُشْكِلُ بِالْيَسِيرِ مِنَ الدَّمِ كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ (٥)؛ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ، وَالْكَثِيرُ يَمْنَعُ، وَلَيْسَ كَالطَّهَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِيهَا، فِي الْقَلِيلِ، كَمَا لَا ضَرُورَةَ فِي الْكَثِيرِ، فَإِنَّ إِيصَالَ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ، مُمْكِنٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ قَدْرَ مَا لَا يَأْخُذُهُ الْبَصَرُ؛ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ، لَا يُجْزِيهِ، وَها هُنَا مَثْلُهُ يُجْزِيهِ، فَدَلَّ أَنَّ الْفَرْقَانِ (٦) بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الْعَدَدِ؛ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا اسْتَنْجَى بِحَجَرٍ وَاحِدٍ وأنقى مَا طَهُرَ مِنَ النَّجَاسَةِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُقِيمًا لِلسُّنَّةِ، وَتُجْزِيهِ صَلَاتُهُ إِذَا تَرَكَ الثَّانِيَةَ، وَالثَّالِثَةَ.


(١) سبق تخريجه: (ص: ١١٣).
(٢) في (ب): (لا يفرض)
(٣) ينظر: "بدائع الصنائع للكاساني" (١/ ١٩)، و"الهداية في شرح بداية المبتدي للمرغيناني" (١/ ٣٩)، و"فتح القدير، لإبن الهمام الحنفي" (١/ ٢١٤)، و"اللباب" للخزرجي (١/ ٩٥)، و" تبيين الحقائق للزيلعي " (١/ ٧٧).
(٤) أي من قال بهذا من الشافعية، لأني لم أجد هذا التعليل للشافعي، وإنما وجد عند بعض الشراح كالماوردي. ينظر: "الحاوي الكبير، للماوردي" (١/ ١٥٩ - ١٦٠).
(٥) ناقش الماوردي هذا القياس بقوله: (وأما قياسهم على دم البراغيث فمنتقض على أصلهم بالمني يجب عندهم إزالة عينه دون أصله، ثم المعنى في دم البراغيث لحوق المشقة في إزالته وكذلك قياسهم على الأثر فالمعنى فيه أنه يشق إزالته بالحجر). ينظر: "الحاوي الكبير، للماوردي" (١/ ١٦٠).
(٦) في (ب): (الفرق)