للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والدَّليل على أنَّه سراية أن فعله أثر في نفس واحدة، والسِّراية عبارة عن آلام تتعاقب من الجناية على البدن، وذلك يتحقق في نفس واحدة في موضعين منها كما يتحقق في الطَّرف مع أصل النَّفس إذا مات من الجناية بخلاف نفسين، فإنَّ الفعل في النَّفس الثانية مباشرة على حدة ليس بسراية الجناية الأولى إذ لا تُتَصَوَّر السِّراية من نفس إلى نفس فلابدَّ من أن يجعل ذلك في حكم فعل على حدة وهو خطأ ثم يعتبر حكم كل فعل بنفسه.

أو نقول: (أَنَّ ذَهَابَ البَصَرِ) هنا حصل (بِطَرِيقِ التَّسبِيبِ (١) فإنَّ الفعل الأولى بقي شجَّة على ما كانت، والأصل في سراية الأفعال إذا حدثت لم يبق الأول كالقطع إذا سرى إلى النَّفس صار قتلاً ولم يبق قطعاً، وههنا الشجَّة لا تنعدم بذهاب البصر وكان الفعل الأولى تسبيباً إلى فوات البصر بمنزلة حفر البئر، والتَّسبيب لا يوجب القصاص كذا في «المبسوط» و «الإيضاح» (٢).

(فَأَوْرَثَتْ نِهَايَتُهُ شُبْهَةَ الخَطَأِ فِي البِدَايَةِ (٣) يعني: إذا صار لا يوجب القود لعاقبته أثر لذلك في البداية.

(بِخِلافِ مَا إِذَا وَقَعَ السِّكِّينُ عَلَى الأُصبُعِ (٤) يعني: لو قطع أصبعاً فاضطرب السِّكين وأصاب أصبعاً أخرى خطأ منه اقتص في الأولى دون الثَّانية؛ لأنَّها قد صارت مقصودة.

ونحن نسلِّم أنها تصلح مقصودة، وإنَّما الكلام في احتمال الاتحاد وذلك عند السِّراية يكون وقد وجد، كذا ذكره فخر الإسلام -رحمه الله- في «الجامع الصَّغير» وكذا أيضاً ذكر في «الإيضاح» فقال: بخلاف ما إذا انسل السِّكين إلى أصبع أخرى؛ لأنَّ القطع في الأخرى ليس من أثر الفعل الأول بل الفعل حلَّهُ مقصودًا فَيُفرَد بحكمه.

وبهذا يعلم أن فيما قاله في الكتاب بقوله: (لأنَّهُ لَيسَ فِعلاً مَقْصُوداً (٥) نظراً، وأنَّ الصَّواب فيما ذكره فخر الإسلام وأبو الفضل -رحمهما الله- (٦).


(١) الهداية شرح البداية (٤/ ١٨٦).
(٢) يُنْظَر: المبسوط؛ للسرخسي (٢٦/ ١٠١)، تبيين الحقائق (٦/ ١٣٦)، تكملة البحر الرائق (٨/ ٣٨٧).
(٣) الهداية شرح البداية (٤/ ١٨٦).
(٤) الهداية شرح البداية (٤/ ١٨٦).
(٥) الهداية شرح البداية (٤/ ١٨٦).
(٦) قال الامام البابرتي: قوله (لأَنَّهُ لَيسَ فعْلًا مَقْصودًا) الضَّميرُ فيهِ عَائدٌ إلى ذهَابِ العَيْنِ بالسِّرَايَةِ، وَبهَذَا التَّوْجيهِ يَنْدَفعُ ما قالَ في النّهَايَةِ إنَّ في قَوْلهِ: (لأَنَّهُ لَيسَ فعَلَا مَقْصودًا) نظَرًا. وأَنَّ الصّوَابَ ما ذكَرَهُ في الذَّخيرَةِ أنَّهُ مَقْصودٌ وَلَكنْ لَيسَ منْ أَثَرهِ، فَإنَّهُ رجَعَ الضَّميرُ إلى الْفعْلِ الثَّاني فَاختَلَّ الكَلَامُ وقَدْ ذكَرَ الْمصَنِّفُ فَرقَيْنِ بنَاءً علَى ما ذكَرَ منْ الدَّليلَيْنِ: الأَوَّلُ بالنِّسْبَةِ إلى الأَوَّلِ، وَالثَّاني إلى الثَّاني. العناية شرح الهداية (١٥/ ٢٩٨، ٢٩٩).
وقال بدر الدين العيني: وقال الأكمل -رحمه الله- الضمير في (لأنه) عائد إلى ذهاب العين بالسراية، وبهذا التوجيه يندفع ما قال في النهاية: أن في قوله (لأنه ليس فعلا مقصودا) نظر، وإن الصواب ما ذكره في الذخيرة أنه مقصود. البناية شرح الهداية (١٣/ ٢٠٤).
وينظر: بدائع الصنائع (٧/ ٣٠٦)، الفتاوى الهندية (٦/ ١٥).