للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأما وجه ظاهر الرواية، فما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه (١)، عن النبي عليه السلام أنه قال: «الاثنان فما فوقهما جماعة» (٢)، ولم يرد به الحقيقة، فدل أن المراد به الحكم، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثل قولهما، والمعنى: أن الاصطفاف من حكم أداء الصلاة بجماعة، وقد وجدت الجماعة حقيقة وحكمًا فيجب مراعاته، أما الحقيقة فلأنهم ثلاثة مع الإمام، وأما حكمًا فلأن الإمام من القوم؛ لأن أداء هذه الصلاة يجوز بدون الإمام، فلذلك أمكننا أن نعد الإمام في حق الاصطفاف من القوم، فإذا عد منهم، فقد حصل أداء الصلاة بجماعة بخلاف الجمعة؛ لأن الإمام هناك شرط على حده، والجماعة شرط على حده، وما روي عن (٣) ابن مسعود رضي الله عنه أنه قام وسطهما (٤)، قال إبراهيم النخعي (٥): كان ذلك لضيق البيت، والأصح: أن هذا كان مذهب ابن مسعود، ولهذا قال في الكتاب: وإن لم يتقدم الإمام، وصلى بهما فصلاتهم تامة؛ لأن فعلهم حصل في موضع الاجتهاد (٦) قال: فإن كان القوم كثيرًا، وقام الإمام وسط الصف أو قام في ميمنة الصف أو ميسرته فصلاتهم تامة، وقد أساؤوا أما صلاة الإمام جائزة؛ لأنه كالمنفرد فيما يصلي، وصلاة المؤتمين أيضًا جائزة؛ لأنهم لم يتقدموا إمامهم إلا أن الإمام يكون مسيئًا؛ لأنه ترك السنة من كل وجه بغير عذر، وكذلك إذا كان إمام القوم، ولكن في ميمنة الصف أو ميسرته فصلاتهم تامة لما بينا، ولكن يكون مسيئًا؛ لأنه خالف السنة من كل وجه، فإن السنة أن يقوم الإمام إزاء وسط الصف ألا ترى أن المحاريب (٧) ما نصبت إلا في وسط المساجد، وهي قد عينت لمقام الإمام، كذا في المبسوطين (٨). (٩) اليتيم أخو أنس لأبيه اسمه عمير فهذا للأفضلية، والأثر (١٠) دليل الإباحة (١١)، أي: تقدم النبي عليه السلام على أنس ويتيم دليل الأفضلية، وتوسط ابن مسعود على علقمة والأسود دليل الإباحة، فإن قلت: لِمَ لم يعكس الدليلان حتى تثبت الأفضلية بالأثر والإباحة بفعل النبي عليه السلام كما هو مزعوم أبي يوسف، فإن النبي عليه السلام كما كان يفعل الأفضل كان يفعل المباح أيضًا لتعليم الجواز والإباحة (١٢).


(١) هو: عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب، أبو موسى، من بني الأشعر، من قحطان: صحابي، من الشجعان، الولاة الفاتحين، وأحد الحكمين اللذين رضي بهما علي ومعاوية بعد حرب صفين. ولد في زبيد (باليمن) وقدم مكة عند ظهور الإسلام، فأسلم، وهاجر إلى إلى أرض الحبشة. ثم استعمله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على زبيد وعدن. له ٣٥٥ حديثًا.
(التاريخ الكبير: ٥/ ٢٢)، و (الإصابة في تمييز الصحابة: ٤/ ٢١١)، و (الطبقات الكبرى: ٤/ ١٠٥).
(٢) رواه الحاكم في مستدركه (٧٩٥٧ - ٤/ ٣٧١)، والدارقطني في سننه (١/ ٢٨٠). ورواه الحاكم بهذا اللفظ وهو ضعيف.
ينظر: أسنى المطالب (١/ ٩٩)، البدر المنير في تخريج الأحاديث والأثار الواقعة في الشرح الكبير (٧/ ٢٠٤ - ٢٠٥).
(٣) في (ب): من فعل
(٤) سبق تخريجه ص (١٢٠)
(٥) هو: إبراهيم بن زيد بن قيس بن الأسود، أبو عمران، من مذحج اليمن من أهل الكوفة، ومن كبار التابعين، أدرك بعض متأخري الصحابة، ومن كبارالفقهاء. قال عنه الصفدي: فقيه العراق. أحذ عنه حماد بن أبي سليمان وسماك بن حرب وغيرهما.
ينظر: طبقات ابن سعد: ٦/ ١٨٨)، و (تذكرة الحفاظ: ١/ ٧٠)، و (الأعلام للزركلي: ١/ ٧٦).
(٦) تعريف الاجتهاد: الاجتهاد لغة أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمل المشقة كإتعاب الفكر في أحكام الرأي، وعبر عنه ببذل المجهود في طلب المقصود، والاجتهاد عرفا: استفراغ الفقيه وسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي. ينظر: التوقيف على مهمات التعاريف (١/ ٣٥).
(٧) الْمحرِاب: (المِحْرَابُ) صدر المجلس ويقال هو أشرف المجالس وهو حيث يجلس الملوك والسادات والعظماء ومنه (مِحْرَابُ المُصَلَّى) ويقال محراب المصلى مأخوذ من المحاربة لأن المصلى يحارب الشيطان ويحارب نفسه بإحضار قلبه وقد يطلق على الغرفة ومنه عند بعضهم (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ) أي من الغرفة. ينظر: المصباح المنير (١/ ١٢٧).
(٨) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي: ١/ ٧٥، ٧٦، والمبسوط للشيباني: ١/ ٢١، ٢٢.
(٩) يشير المصنف إلى مسألة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنس واليتيم. ينظر: الهداية شرح البداية (١/ ٥٦).
(١٠) الأثر لغة: بقية الشيء وقيل: العلامة ولمعان السيف، وأثر الشيء بقيته. ومَعْنًى (الأثر) علم الحديث، واختلف في معنى الأثر، فقيل: هو المرفوع والموقوف، وقيل: الأثر: هو الموقوف، والخبر: هو المرفوع وقيل هو مُرادف للحديث: أي أن معناهما واحد اصطلاحاً وقيل هو مغاير له: وهو ما أضيف إلى الصحابة والتابعين من أقوال أو أفعال.
ينظر: المعجم الوسيط (١/ ٥)، تاج العروس (١/ ٦٤)، تيسير مصطلح الحديث (١/ ٩).
(١١) تعريف الإباحة: الإباحة الإذن في الفعل والترك يقال أباح الرجل ماله أذن في أخذه وتركه وجعله مطلق الطرفين. ينظر: التوقيف على مهمات التعاريف (١/ ٢٧).
(١٢) يُنْظَر: العناية شرح الهداية: ١/ ٣٥٧.