للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والقاري إذا اقتدى بالأمي والكاسي إذا اقتدى بالعاري، والطاهر إذا اقتدى بصاحب الجرح السايل، فإنه لا يصح، وهذا لأن المقتدي بأن صلاته على صلاة الإمام، وتحريمة الإمام لم تنعقد للقيام فلا يمكنه بناء القيام عليه فحينئذ كان اقتداءه في بعض الصلاة دون البعض؛ لأن المقتدي منفرد بالقيام، فكان اقتداء وانفرادًا في حالة واحدة، وكذا ما روي أن آخر صلاة صلاها رسول الله عليه السلام بأصحابه كان قاعدًا وهم قيام خلفه، فإنه عليه السلام لما ضعف في مرضه قال: «مروا أبا بكر يصلي بالناس، فقالت عائشة رضي الله عنها لحفصة: قولي له: إن أبا بكر رجل أسيف إذا وقف في مكانك لا يملك نفسه، فلو أمرت غيره فقالت ذلك كرتين، فقال: «أنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر يصلي بالناس»، فلما افتتح أبو بكر رضي الله عنه الصلاة وجد رسول الله عليه السلام في نفسه خفة، فخرج يهادى بين علي والفضل ورجلاه تخطان الأرض حتى دخل المسجد، فسمع أبو بكر رضي الله عنه حس مجيء النبي عليه السلام، فتأخر وتقدم النبي عليه السلام وجلس يصلي وأبو بكر يصلي بصلاته والناس يصلون بصلاة أبي بكر: يعني أن أبا بكر كان يسمع تكبير رسول الله عليه السلام فيكبر والناس يكبرون بتكبير أبي بكر» (١)، وهذا آخر فعل رسول الله عليه السلام في مرضه فكان ناسخا لما كان قبله (٢).

ولأن الإمام صاحب بدل صحيح، فاقتداء صاحب الأصل به صحيح كالماسح على الخفين إذا أم الغاسلين بخلاف صاحب الجرح ونحوه؛ لأنه ليس بصاحب بدل صحيح، ولأن صلاة القائم والقاعد واحدة، فإن القعود قيام مقصور؛ لأن كماله باستواء النصفين، وقد وجد بصفة فكان بمنزلة اقتداء المستوي قائمًا بالمنحنى ظهر حتى كان كالراكع (٣).

قلت: هذه النكتة هي القاطعة للشغب لما أن القيام عبارة عن استواء النصفين، فلما لم يوجب فوات استواء النصف إلا على عدم جواز الاقتداء لم يوجب أيضًا فوات استواء النصف للأسفل عدم جواز الاقتداء؛ لأنها سواء في تكميل القائم، واسم النصف ولا يلزم إذا كان يومئ إيماء فاقتدى به فإنه لا يصح، كما أن صلاة المقتدي بركوع وسجود فلا ركوع ولا سجود في الإيماء أصلًا؛ لأن الركوع إنما يكون بانحناء الظهر، والسجود بوضع الجبهة على الأرض، وليس هو في الإيماء، فأما في القعود فقد وجد نصف القيام، وهو القيام بالنصف الأعلى، ولأن القيام في ركنين نوع قصور بدليل سقوطه عند سقوط الركوع والسجود، فاكتفينا فيه بالقيام القاصرة لا قصور في الركوع والسجود، وأما المومئ فليس له قيام ولا ركوع ولا سجود أصلًا، فلو قلنا: بجواز اقتداء من يجمع هذه الأركان به لكان ذلك قولا بجواز بناء الموجود على المعدوم، وأنه لا يصح، وليس هذا كالكاسي يقتدي بالعاري وأمثاله؛ لأن ستر العورة والطهارة والقراءة شروط أركان لا وجود لها أصلًا في صلاة الإمام، وفوات هذه الأشياء يوجب الفساد في حق القادر، فلا يصح الاقتداء، فأما هاهنا فقد وجد جميع الأركان في صلاة الإمام على ما تبينا (٤).


(١) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم (٦٨١). ومسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر، (٤١٨) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(٢) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي: ١/ ٣٩٣، ٣٩٤، والعناية شرح الهداية: ١/ ٣٦٨، ٣٦٩.
(٣) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي: ١/ ٢٠١.
(٤) يُنْظَر: تبيين الحقائق: ١/ ١٤٣.