للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والرفع شرعًا يكون حكمًا، وقاس الكلام بالسلام؛ لأن كل واحد منهما/ قاطع ثم في السلام يفصل بين العمد والنسيان، وكذلك الكلام بخلاف الحدث، فإنه مناف للصلاة؛ لأنه ينعدم به شرطها فسوينا فيه بين النسيان والعمد ولنا ما روينا، وليبن على صلاته ما لم يتكلم أن النبي عليه السلام أباح البناء ما لم يتكلم، ولم يقل عن قصد، وفي حديث ابن مسعود رحمه الله أنه قدم من الحبشة، فوجد رسول الله عليه السلام في الصلاة، فسلم عليه، فلم يرد عليه السلام قال: فأخذني ما قرب وما بعد، فلما فرغ قال ابن مسعود: «إن الله تعالى يحدث في أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا يتكلم في الصلاة» (١).

وفي حديث معاوية بن الحكم قال: صليت خلف رسول الله عليه السلام فعطس بعض القوم، فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل (٢) أماه ما لي أراكم تنظرون إلي شزرا (٣)؟ فضربوا أيديهم على أفخاذهم، فعلمت أنهم يسكتونني، فلما فرغ النبي عليه السلام دعاني، فوالله ما رأيت معلما أحسن تعليما منه ما كهرني ولا زجر، ولكن قال: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» (٤) الحديث (٥).

فالشرع جعل في حق الصلاة؛ لأن لا يصلح فيها كلام الناس كما جعل من حقها أن لا يتأدى إلا بالطهارة، ومستقبل القبلة، فلم يسقط حق الصلاة، وشرطها بعذر رجل بالمصلى كما لا يسقط ضمان المحل المقتول بالديّة والكفارة تعذره والكفارة ضمان يجب لله تعالى؛ لأن الشرع جعل العذر (٦) بأن الحقه بالمباح في أن لا يأثم فلا يظهر فيما عدا الإثم من الحقوق سواء كانت لله تعالى أو للناس كما لو ترك ركن العبادة ناسيًا ألا ترى أن الأكل والشرب مفسد للصلاة ناسيًا أو عامدًا لما أن ما لا يصلح في الصلاة، فمباشرته مفسدة للصلاة ناسيًا أو عامدًا، ولهذا لو طال الكلام كان مفسدًا، ولو كان النسيان (٧) فيه عذرا لاستوى فيه أن يطول أو يقصر كالأكل في الصوم، والقياس في السلام أنه مفسد، وإن كان ناسيًا، ولكن استحسنًا فيه لمعنى لا يوجد ذلك في الكلام، وهو أن السلام من جنس أذكار الصلاة، فإن المتشهد يسلم على النبي عليه السلام، وعلى عباد الله الصالحين، وهو اسم من أسماء الله تعالى، وإنما أخذ حكم الكلام بكاف الخطاب، وإنما يتحقق معنى الخطاب فيه عند القصد، فإذا كان ناسيًا شبهناه بالأذكار، وإذا كان عامدًا (٨) شبهناه (٩) بالكلام، فأما الكلام فهو ليس من جنس أذكار الصلاة فكان منافيًا للصلاة على كل حال والخطأ والنسيان عذر في رفع الإثم، وعليه يحمل الآية والخبر بدليل ما ذكرنا، ولأن الحكم غير ملفوظ به، وإنما ثبت مقتضى والمقتضى لا عموم له، وقد ثبت الإثم مرفوعًا بالإجماع (١٠)، فلم يثبت ما عداه كذا في «الأسرار» (١١)، و «المبسوط» (١٢)، فإن قلت: فقد فصل بين القليل والكثير في حق الفعل بأن القليل منه لا يفسد والكثير يفسد، فيجب أن يكون كذلك في الكلام (١٣) لما أنهما في الإفساد سواء فما وجه الفرق بينهما. قلت: قد ذكر في «الأسرار» (١٤) لا يجوز اعتبار القول بالفعل؛ لأن الاحتراز عن أصل الفعل الذي ليس من الصلاة غير ممكن؛ لأن في الحي حركات هي أفعال ليست من الصلاة، ولا يمكنه الاحتراز عن أصلها فلم يكن مفسدًا حتى يكثر ويدخل في حد ما يمكن الاحتراز عنه، وليس في طباعنا كلام فيمكن الاحتراز عن قليله وكثيره.


(١) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته (١/ ٣٨١) رقم الحديث: ٥٣٧. بلفظ: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» ورواه أبو داود في سننه (٩٢٥)، كتاب الصلاة، باب رد السلام في الصلاة. والنسائي في سننه (١٢٢١)، كتاب السهو، باب الكلام في الصلاة.
(٢) في الأصل وعلى الهامش الأيسر (بضم الثاء وفتح الكاف وفتحتين: فقدان المرأة ولدها).
(٣) في الأصل وعلى الهامش الأيسر: (الكهر والاستقبال بوجه عابس).
(٤) رواه مسلم في صحيحه، كتب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان في إباحته (٥٣٧).
(٥) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي: ١/ ٣١١، ٣١٢.
(٦) ساقط من (ب). (حق الصلاة؛ لأن لا يصلح فيها كلام الناس كما جعل من حقها أن لا يتأدى إلا بالطهارة، ومستقبل القبلة، فلم يسقط حق الصلاة، وشرطها بعذر رجل بالمصلى كما لا يسقط ضمان المحل المقتول بالدية والكفارة تعذره والكفارة ضمان يجب لله تعالى؛ لأن الشرع جعل العذر)
(٧) ساقط من (ب). (ألا ترى أن الأكل والشرب مفسد للصلاة ناسيًا أو عامدًا لما أن ما لا يصلح في الصلاة، فمباشرته مفسدة للصلاة ناسيًا أو عامدًا، ولهذا لو طال الكلام كان مفسدًا، ولو كان النسيان)
(٨) ساقط من (ب). شبهناه بالأذكار، وإذا كان عامدًا
(٩) في (ب): شبهنا
(١٠) يُنْظَر: فتح القدير ١/ ٣٩٦، البناية ٢/ ٤٠٦.
(١١) يُنْظَر: كشف الأسرار: ٢/ ١٥٣.
(١٢) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي: ١/ ٣١١ - ٣١٣.
(١٣) في (ب): في الكلام كذلك بدل من كذلك في الكلام
(١٤) يُنْظَر: كشف الأسرار: ١/ ٢٢٠.