للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قلتُ: قالَ القاضي الإمامُ أبو زيد -رحمه الله- (١) في "الْأَسْرَارِ": إنّ سببَ وجوبِ الْعُشْرِ الأرضُ الناميةُ للزراعةِ (٢) حتى جَوَّزَ أبُو يُوسُف تَعجيلَ الْعُشْرِ قَبْلَ النباتِ، فلا يكونُ للخارجِ عفوٌ كما في خراجِ المقُاسمةِ لمِا أنّ الأرضَ عفوٌ لا يجبُ فِيهَا شيءٌ حتى يخرجَ النماءٌ، ولِأَنَّ الزَّكَاةَ تتكررُ في مالٍ واحدٍ، ولو لم يجعلْ لها نِصاباً لأتتْ على المالِ كُلِّهِ، فيفتقُر ربُّ المالَ، وأمّا الْعُشْرِ إذا أخذَ مرةً لا يُؤخذُ ثانيًا، وإنْ تكررتْ السنون، فيبقى الباقي لربِّ المالِ، فكان كالخمسِ، ولِأَنَّ الزَّكَاةَ لا تجبُ إِلاَّ على غني بالمالِ الذي هو سببُ الوجوبِ، وأنهُ لا يوجبُ الغناء ما لم يكن مالًا مُقَدَّرًا، والْعُشْرِ يجب على الفقير، فيجبُ أنْ لا يتعلقْ بقدرٍ معيّن لما أنهُ يجبُ بحقِّ الأرضِ، فيجبُ في القليلِ والكثيرِ كجراحِ المقاسمةِ ولا يُعتبرُ بالمالكي فيه، أي: في الْعُشْرِ حتى وجبَ في أرضِ المكاتبِ، والوقفُ، كذا في "المَبْسُوط"، و"الْأَسْرَارِ" (٣).

وذَكَرَ في "المَبْسُوط" (٤): وإنْ كانتْ الأرضُ لمِكاتِبٍ، أو صَبيٍّ، أو مجنونٍ وجَبَ الْعُشْرِ في الخارج منها عندنا، وقال الشَّافِعِي -رحمه الله- (٥): لا شيء في الخارجِ من أرضِ المكاتبِ، والْعُشْرِ عنَدهُ قياسُ الزَّكَاةِ لا يجبُ إِلاَّ باعتبارِ المالِكِ، أما عندنا: فالْعُشْرِ مُؤْنةُ الأرضِ الناميةِ كالخراجِ (٦)، فالمكاتِب فيه، والحُّر سواء، وكذلك الخارجُ منِ الأراضي الموقوفةِ على الرباطاتِ (٧)، والمساجد يجب فيها الْعُشْرِ عندنا، وعند الشَّافِعِي لا يجبُ إِلاَّ في الموقوفةِ على أقوامٍ بأعيانهم فإنهم كالمُلاكِ، والزكاة غيرُ منفي؛ لأنَّ الخضَرواتِ إذا كانتْ للتجارةِ تَجِبُ فيها الزَّكَاةُ بالاتفاق (٨)، عُلِمَ أنّ المنفيَ هُوَ الْعُشْرِ، وله ما روينا، وهو قولُه -عليه الصلاة والسلام-: «ما أخرجتْ الأرضُ ففيهِ الْعُشْرِ» (٩)، ويرويهما وهو «ليسَ في الخُضرواتِ صدقةٌ» (١٠) محمولٌ على صدقةٍ يأخذُها العاشُر، أي: يأخذ العاشرُ لأجل الفقراءِ عند إباءِ المالكِ عن دفعِ القيمةِ، وهذا هو المنفيُّ عنَد أبي حَنِيفَةَ -رحمه الله- أي: لا يأخذ العاشرُ مِن عينِ الخضرواتِ عند أبي حَنِيفَةَ -رحمه الله- (١١) إذ مر بها على العاشرِ، وهذا معنى قوله: في الْكِتَابِ وبهِ يأخذُ] أبو حنيفة (١٢) فيه؛ أي: ويرويهما بعمل أبي حَنِيفَةَ في حقِّ هذا الحمل الذي حملناهُ عليه لاِ أنْ لا يكونَ الْعُشْرِ فيه.


(١) هو: هو عبدالله بن عمر بن عيسى الدبوس، أبو زيد. نسبته إلى دبوسية، قرية بين بخارى وسمرقند. من أكبر أكابر فقهاء الحنفية. من تصانيفه: (الْأَسْرَارِ في الأصول والفروع)، و (تقويم الأدلة في الأصول).
يُنْظَر: سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاء (١٧/ ٥٢١)، الجواهر المضية (١/ ٢٧٩)، الأَعْلَام للزركلي (٤/ ١٠٩).
(٢) يُنْظَر: حاشية رد المحتار (٤/ ١٧٨).
(٣) يُنْظَر: المَبْسُوط للسَّرَخْسِي (٣/ ٩٠٩)، كشف الْأَسْرَارِ (٢/ ٥١١).
(٤) يُنْظَر: المَبْسُوط للسَّرَخْسِي ٣/ ٧.
(٥) يُنْظَر: الأم (٧/ ١٥١)، أسنى المطالب (١/ ٣٦٩).
(٦) الخَرَاج والخَرْج واحد وهو شيء يخرجه القوم في السَّنة من مالهم بقَدَر معلوم، لسان العرب (٢/ ٢٤٩).
(٧) الرّباطُ: ما رُبِطَ به ومُلازَمَةُ ثَغْرِ العَدُوّ والمُرابَطَةُ: أن يَرْبُطَ كلٌّ من الفَريقَينِ خُيُولَهم في ثَغْرِه وكلٌّ مُعِدٌّ لصاحبِه فَسُمّيَ المُقامُ في الثَّغْرِ رِباطاً. يُنْظَر: القاموس المحيط (٨٦١).
(٨) يُنْظَر: المَبْسُوط (٢/ ٣٧٠)، الْمُحِيط الْبُرْهَاني (٢/ ٥٤٤)، تُحْفَةِ الْفُقَهَاء (١/ ٣١٧).
(٩) سبق تخريجه ص (١٦٤).
(١٠) أخرجه الترمذي في سننه باب زكاة الخضروات، من حديث معاذ -رضي الله عنه- (٣/ ٢٩) قال الترمذي: إسناد هذا الحديث ليس بصحيح، وليس يصح في هذا الباب عن النبي -عليه الصلاة والسلام- شيء، وإنما يروى هذا عن موسى بن طلحة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- مرسلا، والعمل على هذا عند أهل العلم؛ أن ليس في الخضروات صدقة، وقد حكم عليه الشيخ الألباني بالصحة، صحيح وضعيف سنن الترمذي (٢/ ١٣٨).
(١١) يُنْظَر: المَبْسُوط للسَّرَخْسِي (٢/ ٣٧٠)، الْمُحِيط الْبُرْهَاني (٢/ ٥٤٤).
(١٢) في (أ) (أبو ح) وهي اختصار (أبو حنيفة) كما في ب.