للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قلنا: جَمَعَ بينهما في حقِّ حُكْمينِ مختلفينِ لا في حقِّ حُكْمِ واحدٍ، والممتنعُ في حُكْمٍ واحدٍ نظيرُ هذا ما قالوا فيمنَ اشترى أختَهُ مِنَ الرَّضاعةِ، فالوطئُ حرامٌ بيقين في حقِّ الاستيفاءِ، ومع ذلك لو وَطَئَهاْ لا يجبُ عليهِ الحدُّ للشُّبهةِ، فالوطئُ حرامٌ بيقينٍ بالنَّصِّ القَطْعِيِّ، ولكنْ مُلْكُ الرقبةِ أورثَ شُبهة في حقِّ الحدِّ، فَجمعَ بينَ الشبهةُ، واليقينِ في حقِّ حُكْمينِ مختلفين (١) كذا هنا؛ لأنهُ أفطرَ في رمضانَ حقيقةً، وتحريُر نُكْتَتِهِ هو أنْ يقولَ: إنهُ أفطرَ في يوم مِنْ رمضانَ بِلَاْ شُبْهةٍ، فوجبَ أنْ تلزمَهُ الكفارةُ قِياساً على اليومِ الثاني، وقولنا في يومٍ مِنْ رمضانَ بدليلِ الحقيقةِ، والحُكْمُ إمّا لحقيقةٍ، فلأنهُ رأى الهلالَ، وأمّا الحُكْمْ فلأنهُ يلزَمُ الصَّوْم، وقولنا: بلا شُبهةٍ؛ لأنَّ موضوعَ المسألةِ فيما إذا تَيقَّنَ بِرُؤْيَةِ الهلالِ، ولنا أنَّ هذا مُفْطِرٌ عن شُبهةٍ فلا تلزمُهُ الكفارةُ قِياساً على مَا لو تَسحَّرَ، وهو لا يعلمُ بِطلُوعِ الفجرِ؛ لأنَّ هذهِ الكفارةَ مخصوصةٌ منِ بين نظائِرِهَا فيما يَدرأ بالشّبهاتِ كالحدودِ، وهذا كلامٌ لا إِشْكَالَ فيهِ لكنَّ الشاذةَ في إثباتِ الشُّبهةِ، وعليهِ دليلان: أحدهُمُا أنَّ الإمامَ رَدَّ شهادَتَهُ، وقضى بأنها كُذِبٌ بدليلٍ شَرعي أوجبَ ذلك؛ لأنَّ موضوعَ المسألةِ فيما إذا كانتْ السماءُ مُصُحيةً، ولم يجئْ مِن مكانٍ آخرَ، ومتى كانتْ الحالةُ هذهِ، فهوَ وسائِرُ الناسِ في الرُّؤيةِ سواءً، وإذا تكنْ شُبهةُ الغَلَطِ، فقلنا: بأنهُ لا تلزمُهُ الكفارةُ لمِا أنَّ القضاءَ أوجبَ شُبهةَ كَذِبَ الشَّهادةِ، وإنْ قامَ عِندَ الشاهِد دليلُ فَسادِ القضاءِ، ألا ترى أنّ شهوداً لو شَهِدُوا بالقَصاصِ على رجلٍ قضى به القاضي فقتلَهُ الوليُّ، وهو يعلمُ أنَّ الشهودَ كَذَبَه، ثُمَّ جِيءَ المشهودُ بقتلهِ حيّاً فلا قِصاصَ على الوليِّ عندَنا، الشبهةُ الثانيةُ بالقضاءِ؛ لأنهُ قضى بدليلٍ ظاهرٍ أوجبَ الشرعُ العملَ بهِ، فأوجبَ الشُّبهةَ في حقِّ الوليِّ، وإنْ كانَ اليقينُ أنهُ مخُطِئٌ، والثاني أنَّ هذا اليومَ فيهِ شُبهةُ يومِ شعبانَ، وشُبهةُ إباحةِ الفِطْرِ؛ لأنّ الناسَ/ سواء لا يلزمُهم صومُ هذا اليومِ لا أداءً، ولا قضاءً، ويومُ رمضانَ لايج عن أحدِهما لقولهِ -عليه الصلاة والسلام-: «صومُكم يومَ تصومونَ، وفطِرْكُم يومَ تُفطرون» (٢) معناه: وقتُ صومِكم المفروضِ يومَ يصوُم الناس، ووقْتُ فِطْرِكُمْ يومَ يُفِطرُ الناسُ، ليسَ المرادُ منهُ نفسُ الصَّوْم؛ لأنَّا نعلمُ يقيناً أنَّ نفسَ صومِنَا إنما يكونُ إذا صِمْنَا، وأنهُ حتى لا يحُتَاجُ فيه إلى البيانِ، وإنما الاحتياجُ للحِكْمِيِّ، وهوُ شهرُ الصَّوْم فإنهُ يَثْبتُ شَرعاً لا بفعل الناسِ، فبيّنَ النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- أنَّ شهرَ الصَّوْم يومَ يصومُهُ الناسُ، أيْ: يومَ يكونُ يومَ يصومُ الناسُ: أيْ: أنهُ لا يتحرَّى ثبوتهُ في حقِّ البعضِ دُونَ البعضِ، فهذا دليلٌ على أنَّ هذا لا يكونُ صوماً لهذا الرجل لما لم يكنْ يومَ صومِ الناسِ حيثُ لم يلزمْهم أداءٌ، ولا قضاءٌ، فلما كانَ هذا اليومَ يومَ الفِطْرِ في حقِّ الناسِ وجبَ أنْ يكونَ يومُ الفِطْرِ في حقِّ هذا الرجلِ أيضاً عملاً بظاهرِ هذا النصِّ، وإنْ لم يكنْ يوماً للفِطْرِ حقيقةً في حِّقهِ لمِعارضَةِ نَصٍّ آخرَ، وهو قوله: «صوموا لِرؤيته» (٣) فلا أقلَّ مِنْ أن يورثَ شبهةَ الإباحةِ فيما يُدَرأُ بالشُّبهاتِ، فمَنَ سَلَكَ هذه الطريقةَ قالَ: بسقوطِ الكَفارةِ قبلَ القضاءِ وبعدَهُ، والطريقةُ الأُولى تخصُّ ثبوتَ الشبهةِ بعدَ القضاءِ، وعن هذا اختلفَ المشايخُ فيهِ كذا في «الْأَسْرَارِ» (٤)، ومَبْسُوطِ شيخِ الإسلام (٥).


(١) يُنْظَر: الْبَحْرِ الرَّائِق: (٥/ ٣٦).
(٢) رَوَاهُ الترمذي في سننه، كتاب الصَّوْم، باب الصَّوْم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون (٦٩٧)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. قال الألباني في السلسلة الصحيحة (١/ ٤٤٠): صحيح.
(٣) سبق تخريجه ص (٢٧٨).
(٤) يُنْظَر: كشف الْأَسْرَار (٤/ ٢٢١).
(٥) يُنْظَر: المَبْسُوط للشيباني (٢/ ٢١٠).