للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قولُهُ: (وهو حجةٌ على الشَّافِعِي في قولهِ: يُخَيرُ) كَأنْ وَقَعَ سَهوًا مِنَ الكاتبِ، فإنَّ الشَّافِعِي -رحمه الله- لا يقولُ بالتخييرِ (١)، بلْ يقولُ بالترتيبِ المذكورِ في حقِّ المظُاهرِ كما هو قَولنا (٢)، وهذا منصوصٌ في كتُبِهم من «الوجيزِ» (٣)، و «الخلاصةِ» (٤) المنسوبين إلى الغزالي -رحمه الله- (٥)، وكذلك في كِتبنا من مبسوطي شمسِ الأئمة، وفَخْرُ الْإِسْلَام (٦)، وكذلك في نسبةِ (نفي التتابعِ إلى مَالِكِ نَظَرٌ أيضًا) (٧)، بل القائلُ بالتخيير مَالِكٌ، والقائِلُ بعدَمِ التتابعِ ابْنُ أبي لَيْلَى ذكرهما في «المَبْسُوط» (٨)، واحتجَّ مَنْ قالَ بالتخييرِ بحديثِ سعدٍ بنِ أبي وقاصِ -رضي الله عنه- أنَّ رجلًا سألَ رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فقال: إني أَفطرتُ في رمضانَ؟ فقال: «أعتقْ رقبةً، أو صُمْ شهرين، أو أطعْم ستينَ مِسكينًا» (٩) (١٠)، ولنا ما روينا مِن قولهِ -عليه الصلاة والسلام-: «فعليهِ ما على المُظاهر» (١١) فتبينَ بهذا أنّ المرادُ بالحديثِ الآخرِ بيانٌ بأنهُ تتأدّى الكفارةُ في الجملةِ لإتيانِ التخييرِ، ثُمَّ بعدَ العجزِ عن العتقِ كفارتُهُ بالصَّوْم إِلاَّ على قولِ الحسنِ البصري، فإنهُ يقولُ عليهِ بَدَنةً (١٢)، وجعلَ هذا قياسُ الجامعِ في الإحرامِ، ولكنا نقولُ: لا مَدْخَلَ للقياسِ في إثباتِ ما بهِ تتأدَّى الكفارةُ، وإنما طريقُ معرفةِ النصِّ، وليسَ في شيءٍ من النصوص ذِكْرُ البدَنةِ في كفارةِ الفِطْرِ، واحتجَّ مِنْ قالَ: بنفي التتابعِ، وهو ابْنُ أبي لَيْلَى بالقياسِ على القضاءِ (١٣)، وما روينا منَ الآثارِ حُجَةً عليهِ، وكُلُّ صيامٍ لم يذكره اللهُ تعالى في القرآنِ متتابعًا فالصائمُ بالخيارِ إنْ شاءَ تابعَ، وإنْ شاءَ فَرَّقَ، وكُلُّ صومٍ ذُكِرَ في القرآنِ متتابعًا فعليهِ التتابعُ، والصياماتُ المذكورةُ في كتابِ اللهِ تعالى ثمانيةٌ: أربعةٌ منها متتابعةٌ، وأربعُة منها صاحَبِهُا بالخيارِ أما التتابعُ فصومُ رمضانَ متتابعٌ لتتابُع الوقتِ لا مقَصودًا بنفسهِ، فإنَّ وقتهُ شهرُ رمضانَ، والثلاثُ الآخرُ هي كفارةُ القتلِ، وكفارَةُ الظِّهارِ، وكفارةُ اليمينِ عنَدنا، وأمّا الأربعُ التي صاحبها بالخيارِ الأولِ: قضاءُ رمضانَ، والثاني صومُ المتعةِ/ بقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (١٤) (١٥)، والثالث: صومُ كفارةِ الخلوةِ بقولهِ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} (١٦) (١٧)، والرابع: كفارةُ جزاءُ الصيدِ بقولهِ: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} (١٨) (١٩)، ومِنْ مشايخِنا مَنْ قالَ (٢٠): الجُملة في ذلكَ أنَّ كُلَّ كفارةٍ شُرِعَ فيها عْتقٌ فإنّ صومَهُ متتابعٌ، وما لم يُشرَعْ فيها عِتْقٌ، فصاحُبهُ بالخيارِ، فحينئذٍ يدخلُ فيهِ كفارةُ الفطرِ (٢١)، كذا في «المَبْسُوط» (٢٢)، للنصِّ عليه، أي: للتنصيصِ على التتابعِ في حديثِ الأعرابي، فإنه قالَ له: «صُمْ شهرين متتابعين» (٢٣).


(١) يُنْظَر: الْحَاوِي (٣/ ٤٣٢)، الْمَجْمُوع (٦/ ٣٤٥).
(٢) يُنْظَر: تَبْيِينُ الْحَقَائِق (١/ ٣٢٨)، النتف (١/ ١٥٩).
(٣) يُنْظَر: العزيز شرح الوجيز (٨/ ٧٦).
(٤) يُنْظَر: الخُلَاصَة الغزاليَّة (١/ ٥٠٦).
(٥) هو: مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد أبو حامد الغزالي بتشديد الزاي. نسبته إلى الغزال - بالتشديد- على طريقة أهل خوارزم وجرجان ينسبون إلى العطار عطاري، وإلى القصار قصاري، وكان أبوه غزالاً، أو هو بتخفيف الزاي نسبة إلى (غزاله) قرية من قرى طوس. فقيه شافعي أصولي، متكلم، متصوف. رحل إلى بغداد، فالحجاز، فالشام، فمصر وعاد إلى طوس. من مصنفاته: (البسيط)، و (الوسيط)، و (الوجيز)، و (الخلاصة) وكلها في الفقه، و (تهافت الفلاسفة)، و (إحياء علوم الدين).
يُنْظَر: (طبقات الشَّافِعِية: ٤/ ١٠١)، و (الوافي بالوفيات: ١/ ٢٧٧)، و (الأَعْلَام للزركلي: ٧/ ٢٢).
(٦) يُنْظَر المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ١٣٥).
(٧) يُنْظَر: الذخيرة (٢/ ٥٢٦).
(٨) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ١٢٩).
(٩) رَوَاهُ البزار في مسنده (١١٠٧ - ١/ ١٩٨)، وقال: وهذا الحديث لا نعلم يروى عن سعد إلا من هذا الوجه، ولا نعلم رَوَاهُ إلا الواقدي، والواقدي تكلم فيه أهل العلم.
(١٠) يُنْظَر: الْعِنَايَة شرحُ الهِدَايَة (٢/ ٣٤٠).
(١١) سبق تخريجه ص (٣١٧).
(١٢) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ١٢٩).
(١٣) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ١٢٩).
(١٤) سورة البقرة: الآية (١٩٦).
(١٥) يُنْظَر: تفسير ابن كثير (١/ ٥٣٨).
(١٦) سورة البقرة: الآية (١٩٦).
(١٧) يُنْظَر: تفسير النسفي (١/ ١١٠)
(١٨) سورة المائدة: الآية (٩٥).
(١٩) يُنْظَر: الجامع لأحكام القران (٦/ ٣١٣).
(٢٠) يُنْظَر: الْبَحْرُ الرَّائِق (٢/ ٢٩٨)، حاشية الطحطاوي (١/ ٤٥٣).
(٢١) يُنْظَر: الْعِنَايَة شرحُ الهِدَايَة (٢/ ٣٥٤).
(٢٢) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ١٢٩).
(٢٣) سبق تخريجه، ص (٣٢٥).