للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والثاني: أنَّ المُسافرةَ في رمضانَ لا بأسَ بها، وعلى قولِ أصحابِ الظواهرِ يستديمُ السفُر في رمضانَ ولا ينشئُهُ (١) والدليلُ على جوازِ المسافرِ حديثُ أبي هريرةَ -رضي الله عنه-: "أنَّ رسولَ اللهِ -عليه الصلاة والسلام- خرجَ من المدينةِ إلى مكةَ لليلتين خَلَتا مِنْ رمضانَ، فصامَ حتى أتى قديدًا (٢) فشَكَاَ الناسُ إليهِ فأفطَر، ثُمَّ لم يزلْ مُفْطرًا حتى دخلَ مكةَ" (٣) فإنْ سافْرتَ في رمضانَ فقدْ سافَر رسولُ اللهِ -عليه الصلاة والسلام-، وإنْ صمْتِ فقدَ صامَ، وإنْ أفطْرتَ فقدْ أفْطَرَ، وكُلُّ ذلكَ، واسِعٌ.

والثالث: إذا أنْشِئَ السفرُ في رمضانَ فلُه أنْ يترخَّصَ بالفِطْرِ. وكانَ عليٌّ وابنُ عباسٍ يقولان ذلكَ لمَنْ أهلَّ الهلالُ وهو مُسافِرٌ (٤)، وأمّا إذا أُنِشْئَ السفرُ في رمضانَ فليسَ لهُ أنْ يُفْطَر والحديثُ الذي رَوَينا أنهُ -عليه الصلاة والسلام- أفطَر حينَ يتكلمُ الناسُ إليهِ حُجَّةً عليهِ، ولا يُقال: لمَن أهلَّ الهِلالُ، وهو مقيمٌ فقْد لَزِمَهُ أداءُ صومِ الشَّهْرِ، فلا يسقطُ ذلك عنهُ بسَفَرٍ يُنْشِئُهُ باختيارِهِ كاليومِ الذي يُسافر فيهِ؛ لأنا نقولُ: صومُ الشهرِ عباداتٌ، وهو مقيمٌ فقدَ لِزَمَهُ أداءُ صومِ الشهرِ فلا يسقطُ ذلك عنُه بسفرِ ينشِئُهُ باختيارِهِ إلى متفرقةٍ فإنَّما يلزمُهُ مِنَ الأداءِ باعتبارِ اليومِ الذي كانَ مُقيمًا في شيءٍ منهُ مِنْ دُونَ اليومِ الذي كانَ مُسافرًا في جميعهِ قِياسًا على الصلواتِ.

والرابع: أنَّ الصَّوْم في السفِر أفضلُ مِنَ الفِطْرِ عندَنا (٥)، وقالَ الشَّافِعِي -رحمه الله- (٦): الفِطْرُ أفضلُ؛ لأنَّ ظاهَر ما روينا يدلُّ على أنَّ الصَّوْم لا يجوزُ في السفرِ، فإنْ تركَ هذا الظاهرَ في حقِّ الجوازِ بِقيَ مُعتبرًا في أنَّ الفِطْرَ أفضلُ، وقاسَ بالصَّلَاةِ، فإنَّ الاقتصارَ على الركعتينِ في السفرِ أفضلُ منِ الإتمامِ فكذلكَ الصَّوْم؛ لأنَّ السفَر يُؤثِرُ فيهما. قالَ -عليه الصلاة والسلام-: «إنَّ اللهَ تعالى وضعَ عنِ المسافرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ والصَّوْم» (٧) ولنا ما رُويَ عنِ النبيِّ -عليه الصلاة والسلام- أنهُ قالَ في المسافرِ: «يترخَّصُ بالفِطْرِ، وإنْ صامَ فهو أفضلُ لهُ»، وبدأَ رسولُ اللهِ -عليه الصلاة والسلام- بالصَّوْم حتى شكى الناسُ إليهِ، ثُمَّ أفطرَ (٨)، فذلك] دليلٌ (٩) على أنَّ الصَّوْم أفضلُ، ثُمَّ الفِطْرُ رخصةٌ، وأداءُ الصَّوْم عزيمةٌ، والتمسكُ بالعزيمةِ أولى مِنَ الترخُّصِ بالرُّخْصَة (١٠)، وهذا لأنّ هذهِ الرخصةُ لِدُفْعِ الحرج عنهُ، وربما يكونُ الحرجُ في حقِّهِ في الفِطَرِ أكثرُ، فإنهُ يحتاجُ إلى القضاءِ وَحَدَه بخلافِ] الصَّلَاةِ (١١)، فإنَّ شطر الصَّلَاةِ سقطَ عنُه أصلًا حتى لا يلزمُهُ القضاءُ، فكانَ] الظهر (١٢) في حقِّهِ كالفجرِ في حقِّ المُقيمِ، كذا في «المَبْسُوط» (١٣).


(١) ظاهر كلام ابن حزم هو عكس ما ذكره المؤلف، فإنه يرى عدم جواز صوم رمضان في السفر إطلاقا، يُنْظَر: المحلى (٦/ ٢٤٨).
(٢) قديد: في الطريق بين مكة والمدينة، بينها وبين الجحفة - ميقات أهل الشام - سبعة وعشرون ميلاً وبينها وبين البحر خمسة أميال. يُنْظَر: الروض المعطار في خبر الأقطار (ص: ٤٥٤).
(٣) رَوَاهُ الْبُخَارِيُ في صحيحه، كتاب الصَّوْم، باب إذا صام اياما من رمضان ثم سافر (١٨٤٢)، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب جواز الصَّوْم والفطر في شهر رمضان للمسافر (١١١٣)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
(٤) يُنْظَر: المحلى (٦/ ٢٤٧)، المَبْسُوط (٣/ ١٦٥).
(٥) يُنْظَر: بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ٩٦)، تُحْفَةِ الْفُقَهَاء (١/ ٣٥٩).
(٦) ما نسبه المصنف -رحمه الله- إلى الشَّافِعِي أن قوله بالفطر أفضل في السفر بحثت عنه ولم أجده بل ما وجدته هو أن الصَّوْم أفضل يُنْظَر: الْحَاوِي (٣/ ٤٤٦)، المهذب (١/ ١٧٨).
(٧) رَوَاهُ الترمذي في سننه (٧١٥)، كتاب الصَّوْم، باب الرخصة في الإفطار للحبلى والمرضع. وابن ماجه في سننه (١٦٦٧)، كتاب الصيام، باب ما جاء في الإفطار للحامل والمرضع. والنسائي في سننه (٢٢٧٦)، كتاب الصيام، باب ذكر اختلاف معاوية بن سلام وعلي بن المبارك في هذا الحديث. قال الألباني: حسن صحيح.
(٨) المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ١٦٦).
(٩) سقطت في ب.
(١٠) يُنْظَر: بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ٩٦).
(١١) في (ب) (الصَّوْم). ولعل ما أثبته هو الصحيح لموافقته سياق الكلام.
(١٢) سقطت في (ب).
(١٣) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٣/ ١٦٤ - ١٦٦).