للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وفي «المَبْسُوط» (١): رجلٌ ماتُ عندَما وجبتْ عليهِ الصدقةُ في سائمتِهِ فجاءَ المصُدقِ، وهو في يدِ الورثةِ، فليسَ لهُ أنْ يأخذَ منهم صدقتَها إِلاَّ وأنْ يكونَ الميتُ أوصى بذلك، فحينئذٍ يأخذُ مِن ثُلثِ مالهِ، وقالَ الشَّافِعِي (٢): يأخذُ الصدقةَ مِنْ جميعِ مالهِ أوصى أو لم يوصِ، وحجُتُه قولهُ -عليه الصلاة والسلام-: في حديثِ الخثعميةِ: «أرأيتَ لو كانَ على أبيكَ دَيْنٌ أتقضيَهُ» فقالَت: نعمْ، فقالَ -عليه الصلاة والسلام-: «دَيْنُ اللهِ أحقُّ» (٣) فقد شَّبهَ رسولُ اللهِ -عليه الصلاة والسلام- دَيْنُ اللهِ بدَيْنِ العبادِ، ثُمَّ دَيْنُ العبادِ يُقضي مِنَ التَركَةِ بعدَ الوَفاةِ مُقدمًا على الميراثِ، فكذلك دَيْنُ الله؛ وذلك لأنَّ الوارثَ قائِمٌ مقامَ الموُرِثِ في أداءِ ما يجري النيابةُ في رأيهِ، وحجتُنا قولُه -عليه الصلاة والسلام-: «يقولُ ابنُ آدمَ مالي مالي، وهلَ لكَ مِنْ مالِكَ إِلاَّ ما أكلْتَ فأفنيتَ، أو لبسْتَ فأبليْتَ، أو تصدقتَ فأمضيْتَ، وما سوى فذلك فهو مال ومالي الوارثِ» (٤)، وهذا يقتضي أنَّ ما لم يمضْهِ منَ الصدقةِ يكونُ مالُ الوارثِ بعدَ موتهِ، وهذا لِأَنَّ حقُوقَ اللهِ تعالى مع حقوقِ العبادِ إذا اجتمعتْ في محلِّ تقدِّمَ حقَّ العبادِ، ثُمَّ الواجبُ عليهِ فِعْلُ الإيتاءِ، وفعلٌ للإيتاءِ لا يمكنُ إقامتُهُ بالمالِ لتقوَم المالُ فيهِ مقامَ الذِّمَةِ بعدَ الموتِ، والوارثُ لا يمكنُ أنْ يجُعلَ ثانيًا في أداءِ الزَّكَاةِ؛ لأنَّ الواجبَ ما هو عبادةٌ، ومعنى العبادة لا تتحققُ بلا نيّةٍ، وفعلُ ممن يجبُ عليهِ حقيقةً أو حُكْمًا كما في الإيصاءِ، فأمّا خلافةَ الوارثِ المورثِ في أداءِ الزَّكَاةِ مِنْ غيرِ إيصاءٍ يكونُ جبرًا من غيرِ اختيارٍ من المورثِ، وبه لا تتأدّى العبادةُ إِلاَّ أنْ يكونَ أوصى، فحينئذٍ تكون بمنزلةِ الوصيةِ بسائرِ التبرعاتِ ينفذُ من ثلثه، ويظهرُ الفرقُ بما ذكرنا بينَ ديونِ اللهِ تعالى، وبين دُيونِ العبادِ إذا تأملتَ، كذا في المَبْسُوط (٥)، وحديثِ الخثعمية (٦) محمول على إذا جددَ أمَرها بهِ.


(١) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٢/ ٣٣٤).
(٢) يُنْظَر: الْمَجْمُوع (٦/ ٣٦٤).
(٣) الحديث أخرجه الْبُخَارِيُ في صحيحه، باب الحج، والنذور عن الميت، والرجل يحج عن المرأة (٣/ ١٨)، ومسلم في صحيحه، باب قضاء الصِّيَامِ عن الميت (٣/ ١٥٦)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، ولكن السائل هي امرأة من جهينة كما في الْبُخَارِيُ وليست الخثعمية، وفي مسلم أن السائل امرأة على الإبهام.
(٤) رَوَاهُ مسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق (٢٩٥٨)، من حديث مطرف عن أبيه.
(٥) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي (٢/ ٣٣٤، ٣٣٥).
(٦) سبق تخريجه، ص (٣٥٧).