للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقولها: "شيخًا كبيرًا" نصبٌ على الحال، يعني لزمه الحجّ في هذه الحالة، ولم ينكر عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك، فدل أن الحجّ يجب على المُقعد والمعضُوب، والمعنى فيه: أن شرط الوجوب التمكن من أداء الواجب، وإذا صار أداء الواجب بالمال عند العجز عن الأداء بالبدن، عرفنا أن شرط الوجوب يتمُّ به، وإذا جاز بقاء الواجب بعد وقوع اليأس عن الأداء بالبدن؛ يُؤَدَّى بالمال، فكذلك يثبت الوجوب بالبدن (١) ابتداء بهذه الصفة: كالصوم في حق الشيخ الفاني (٢)، فيجب باعتبار بدله: وهو الفدية (٣)، وحجتنا في ذلك قول الله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (٤)، فإنما أوجب الله الحج على من يستطيع الوصول إلى بيت الله، والزّمِن لا يستطيع الوصول إلى بيت الله، فلا يتناوله هذا الخطاب، ثُمَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعل الشرط مالًا يوصله إلى البيت لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من وجد زادًا وراحلةً يبلغانه بيت الله» (٥). وزاد المقعد وراحلته لا يبلغانه بيت الله، فصار وجوده كعدمه، ولأن المقصود بهذه العبادة تعظيم البقعة (٦) بالزيارة، والمال يشترط؛ [ليتوصل] (٧) به إلى هذا المقصود، وما هو المقصود فائت في حق المَعضُوب، فلا يعتبر وجود الشرط؛ لأن الشرط تبع، والتبع لا يقوم مقام الأصل في إثبات الحكم به ابتداء، وإذا كان يبقى الحكم بعد ثبوته باعتباره، واعتبار الابتداء بالبقاء فاسد، فإنه إذا افتقر بهلاك المال بعدما وجب الحجّ عليه يبقى واجبًا، ثُمَّ لا يجب ابتداء على الفقير وليس هذا نظير الفدية في حق الشيخ الفاني؛ لأنها بدل عن أصل الصوم بالنص، فيجوز أن يجب الأصل باعتبار البدل، وهاهنا المال ليس ببدل عن أصل الحجّ، ألا ترى أنه لا يتأدى بالمال، وإنما يتأدى بمباشرة النائب الحجّ عنه، فإذا لم يكن المال بدلًا عن أصل الحجّ لا يثبت الوجوب باعتباره، والروايات اختلفت في الخثعمية ففي بعضها قالت: «هو شيخٌ كبيٌر» (٨)، وهذا بيان أنه في الحال بهذه الصفة [لا أنه] (٩) في وقت الوجوب بهذه الصفة).


(١) في (ج) بالأمال.
(٢) الشيخ الفاني: أي الرجل العجوز الذي بلغ من العمر عتيا وأوشك على الموت.
(٣) الْفِدَاءُ - بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالْمَدِّ، وَبِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ مَعَ الْقَصْرِ - فِي اللُّغَةِ: فَكَاكُ الأْسِيرِ، يُقَال: فَدَاهُ يَفْدِيهِ، وَفَادَى الأْسِيرَ: اسْتَنْقَذَهُ مِنَ الأْسْرِ، وَفَدَتْ وَافْتَدَتْ وَفَادَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ زَوْجِهَا: بَذَلَتْ لَهُ مَالاً لِيُطَلِّقَهَا، وَقَال ابْنُ بَرِّيٍّ نَقْلاً عَنِ الْوَزِيرِ المغربي: يُقَال: فَدَى: إِذَا أَعْطَى مَالاً وَأَخَذَ رَجُلاً، وَأَفْدَى: إِذَا أَعْطَى رَجُلاً وَأَخَذَ مَالاً، وَفَادَى: إِذَا أَعْطَى رَجُلاً وَأَخَذَ رَجُلاً، وَالْفِدَاءُ وَالْفِدْيَةُ وَالْفَدَى كُلُّهُ بِمَعْنًى، وَقَال بَعْضُهُمُ: الْفِدْيَةُ اسْمٌ لِلْمَال الَّذِي يُفْتَدَى بِهِ الأَْسِيرُ، وَنَحْوُهُ.
انظر: المعجم الوسيط،/ مادة فدي (٢/ ٧٠٢)
(٤) سورة آل عمران من الآية (٩٧).
(٥) سبق تخريجه ص (١٣٦).
(٦) البقعة: من بقع في ب ق ع: البُقْعَةُ من الأرض واحدة البِقاعِ و الباقعةُ الداهية و البَقِيعُ موضع فيه أروم الشجر من ضروب شتى وبه سمي بقيع الغرقد وهي مقبرة بالمدينة والغراب الأَبْقَعُ الذي فيه سواد وبياض و بُقْعَانُ الشام الذي في الحديث خدمهم وعبيدهم.
انظر: مختار الصحاح/ مادة بقع، (٦٥)، والمقصود بها الأرض المقدسة.
(٧) أثبته من (ب، وج).
(٨) متفق عليه: أخرجه البخاري في "صحيحه" باب: [وُجُوبِ الحَجِّ وَفَضْلِهِ] (٢/ ١٣٢) برقم: [١٥١٣]، وأخرجه مسلم في باب: [الْحَجِّ عَنِ الْعَاجِزِ لِزَمَانَةٍ وَهَرَمٍ وَنَحْوِهِمَا، أَوْ لِلْمَوْتِ] (٢/ ٩٧٣) برقم: [١٣٣٤].
(٩) في (ج) لأنه.