للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قلت: المراد من الجواز هنا النفاذ، كما في البيع وغيره، ونفاذه إنما يكون بالوقوع، وإنما [٣٢٣/ ب] قلنا ذلك؛ لأنّ فعل الصبيّ والمجنون فيما يرجع إلى المعاملات لا يوصف بالحرمة؛ لأنّه لا يجري القلم عليهما بكتبة السّيئة والحرمة باعتبارها، فكان الجواز محمولاً على النفاذ، وذلك بالوقوع، وهما عديما العقل (١).

فإن قلت: هذا في المجنون المسلم، وأمّا الصّبي فيوصف بالعقل، فيقال: يصحّ إسلام الصبيّ العاقل.

قلت: لا لم يعتدل عقله بالبلوغ كان طرف العدم ثابتاً لقيام الصبا خصوصاً فيما هو ضرر محض وهو زوال ملك النكاح.

وفي «المبسوط» وطلاق الصبي باطل (٢)؛ لأنّه ليس له قصد معتبر شرعًا، خصوصاً فيما يضرّه، وهذا لأنّ اعتبار القصد ينبني على الخطاب، والخطاب ينبني على اعتدال الحال، ولكن قدر ذلك العقل، وإن لم يعتدل يصلح، لتحقيق ما هو حسن بعينه؛ بحيث لا يحتمل القبح كالإيمان وتحقيق ما هو فسخ بعينه، بحيث لا يحتمل الحسن كالردّة (٣)؛ لأنّهما لا يحتملان الردّ بعد تحقّقهما بحدهما، لما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى.

ولنا: أنه قصد إيقاع الطلاق، هذا احتراز عن الإقرار بالطّلاق في حالة الإكراه بالإقرار فإن إقراره هناك لغو حيث لا يقع به الطّلاق؛ لأنّه ما قصد هناك إيقاع الطّلاق، بل قصد الإقرار، وهو خبر متمثل بين الصدق والكذب، وقيام السّيف على رأسه دليل على أنّه كاذب فيه، والمخبر عنه إذا كان كذباً فبالإخبار عنه لا يصير صدقاً في حال أهليته، احتراز عن الصبي والمجنون فلا يعزى عن قضيته أي: عن حكمه؛ وهذا لأنّه عرف الشّرين، واختار أهونهما. هذا جواب عن قوله إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُجَامِعُ الِاخْتِيَارَ، فقال: بل هو اختار لِأَنَّهُ عَرَفَ الشَّرَّيْنِ وَاخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا، وذلك لأنّ الإكراه لا يزيل الخطاب (٤).

أمّا في غير ما أكره عليه فلا إشكال، وفيما أكره عليه كذلك، حتّى ينوّع الأمر عليه فتارة يباح له الإقدام، كالفطر في رمضان، وتارة يعترض عليه كشرب الخمر، وتارة يحرم عليه كالقتل والزّنا، والخطاب إنّما يرد على المختار، وذكر في «المبسوط»، وحجّتنا في ذلك ما روي أن امرأة كانت تبغض زوجها، فوجدته نائمًا فأخذت شفرة، وجلست على صدره ثم حركته، وقالت: لتطلقني ثلاثاً أو لاذبحنك فناشدها الله فأبت فطلّقها ثلاثاً ثمّ جاء إلى رسول الله -عليه السلام- فسأله عن ذلك فقال: «لا قيلولة في الطّلاق» (٥) (٦).


(١) يُنْظَر: العناية شرح الهداية (٣/ ٤٨٨).
(٢) المبسوط للسرخسي (٦/ ٥٣).
(٣) لغة: الرِّدَّةُ، (بِالْكَسْرِ: الاسمُ مِنَ الارْتِدادِ) وَقد ارْتَدَّ،: تَحوَّلَ، وَمِنْه الرِّدّة عَن الإِسلامِ، تاج العروس (٨/ ٩٠).
شرعًا: وهو الرجوع من الدين الحق إلى الباطل. ينظر: أنيس الفقهاء في تعريفات الألفاظ (ص: ٦٧).
(٤) يُنْظَر: المبسوط للسرخسي (٦/ ١٧٨) وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (٢/ ١٩٥) والعناية شرح الهداية (٣/ ٤٨٨)
(٥) أخرجه سنن سعيد بن منصور (كتاب الطلاق/ باب ما جاء في طلاق ىالمكره/ ١١٣٠)، قال ابن حجر: "هذا الحديث مُنكر". انظر: الدراية في تخريج أحاديث الهداية (٢/ ٧٠).
(٦) المبسوط للسرخسي (٦/ ١٧٧).