للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإذا كان كذلك فيه العدد إنّما يعمل في الطّلاق الذي هو فعل الرجل إذا كان محتملاً لنيّة العدد، فلما كان هذا نعيا للمرأة، ولم يكن الطّلاق نائباً لها قبل هذا، كان نعته إياها بذلك كذباً محضاً في مخرجه لغة، كما إذا قلت لرجل قائم بأنّه جالس، أو على العكس، لكن أثبت طلاق بها شرعًا لا لغة قبيل قوله: أنت طالق لضرورة تصحيح وصف الواصف به وذلك نائب اقتضاؤه لا عموم للمقتضي عندنا؛ لأنّ ثبوته لتصحيح الكلام لما أنّ الثّابت بطريق الضّرورة يثبت على حسب ثبوت الضّرورة لا ما وراه، والضّرورة تندفع بالواحدة، فلما لم يثبت الطّلاق فيما وراءها، لا لغة ولا شرعًا، كانت نيته الثلاث أو الثنتين مصادفة للعدم فلا يثبت؛ لأنّ بمجرّد النيّة لا يقع بشيء إذا لم يكن اللّفظ محتملاً لها، وكذلك قَوْلِهِ قَدْ طَلَّقْتُكِ أَوْ أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ فلا وجه لتصحيحه، إلا أن يجعل الطّلاق ثابتاًقبل أخباره بهذا الضّرورة تصحيح أخباره، فكان هذا ثابتاً شرعًا - أيضاً - بطريق الاقتضاء، فلا تعمل نية الثنتين أو الثّلاث لما قلنا.

بخلاف قوله: طَلِّقِي؛ لأنّ ثبوت التّطليق هناك ليس على طَرِيق الِاقْتِضَاء؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ لتصحيح الصدق حتّى يثبت الطّلاق قبله ضرورة، لما أنّه للطّلب لا للأخبار، فلم يثبت هناك من معنى الاقتضاء الذي ذكرناه في الأخبار، ويوفيه هذا الكلام في الوافي وذكر في «المبسوط» أنّ نيّة العدد لا يعمل هناك عندناحتّى لو نوى الثّنتين لا يصح ونيته الثلاث إنّما صحت باعتبار معنى العموم؛ لأنّه تفويض والتفويض قد يكون عامًا وقد يكون خاصًّا (١) والمفوّض [٣٢٦/ أ] إليها بهذا اللّفظ طلاق، والطّلاق بمنزلة أسماء الأجناس محتمل للعموم والخصوص، فتعمل بينة في العموم فصار بمنزلة قوله أنت طالق.

فإن قيل: لما أقيم قوله: أنت الطّلاق مقام أنت طالق.

وفي قوله: أنت طالق لا يصحّ نيّة الثّلاث، فينبغي أن لا يقع بقوله أَنْتِ الطَّلَاقُ الثلاث وإن نوى كما في قوله أنت طالق.

قلنا: لا يصحّ نية الثلاث في قوله: أنت طالق؛ لأن ذلك نعت فرد من كلّ وجه فلا يحتمل العدد كما ذكر.

وأمّا الطلاق فهو مصدر في أصله، وإن وصف به، فلمح فيه جانب المصدر به فلذلك خالف لقوله: أنت طالق في صحّة نية الثلاث، وفي «المبسوط» لَوْ قَالَ أَنْتِ الطَّلَاقُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ (٢) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْكِسَائِيَّ (٣) -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَعَثَ إلَى مُحَمَّدٍ (٤) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِفَتْوَى فَدَفَعَهَا إلَيَّ فَقَرَأْتهَا عَلَيْهِ، مَا قَوْلُ الْقَاضِي الْإِمَامِ فِيمَنْ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ:

فَإِنْ تَرْفُقِي يَا هِنْدُ فَالرِّفْقُ أَيْمَنُ

فَأَنْتِ طَلَاقٌ وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ … وَإِنْ تَخْرِقِي يَا هِنْدُ فَالْخَرْقُ أَشْأَمُ

ثَلَاثٌ وَمَنْ يَخْرِقْ أَعَقُّ وَأَظْلَمُ (٥)

كَمْ يَقَعُ عَلَيْهَا؟. فَكَتَبَ فِي جَوَابِهِ: إنْ قَالَ: ثَلَاثٌ مَرْفُوعًا تَقَعُ وَاحِدَةً، وَإِنْ قَالَ: ثَلَاثًا مَنْصُوبًا، يَقَعُ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا ذَكَرَهُ مَرْفُوعًا كَانَ ابْتِدَاءً، فَيَبْقَى قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ، فَتَقَعُ وَاحِدَةً، وَإِنْ قَالَ: ثَلَاثًا مَنْصُوبٌ عَلَى مَعْنَى الْبَدَلِ أَوْ عَلَى التَّفْسِيرِ يَقَعُ بِهِ ثَلَاثٌ (٦)، والمثنى بمعزل منهما أي: من الفردية والجنسية.


(١) المبسوط للسرخسي (٦/ ٧٧).
(٢) محمد بن سماعة بن عبيد التميمي، أبوعبد الله. حدَّث عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن، وولي القضاء ببغداد، له كتاب "أدب القاضي"، وَكتب النَّوَادِر عَن أبي يُوسُف وَمُحَمّد، توفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وله مائة سنة وثلاث سنين. انظر: تاج التراجم لابن قطلوبغا (ص: ٢٤١)، وتاريخ بغداد وذيوله (٢/ ٤٠٢)، الجواهر المضية في طبقات الحنفية (٢/ ٥٨).
(٣) علي بن حمزة الكِسَائي المُقرئ، كنيته أبو الحسن. يروي عن: الأعمش وعاصم بن أبي النجود. كان أحد أئمة القراء السبعة وصنف "معاني القرآن"، و"الآثار فِي القرءات"، مات بالري سنة تسع وثمانين ومائة برَنْبُويَه قرية من قراها مع محمد بن الحسن الشيباني في يوم واحد. انظر: تاريخ بغداد (١٣/ ٣٤٥)، والثقات ممن لم يقع في الكتب الستة (٧/ ٢٠١)، ونزهة الألباء في طبقات الأدباء (ص: ٥٨).
(٤) هو محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني، مولاهم، نشأ في الكوفة وتلقى العلم عن الإمام أبي حنيفة أولاً، وعن أبي يوسف، وروى عنه الشافعي فأكثر جداً، يعود له الفضل في تدوين مسائل الفقه الحنفي، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ الْفِقْهِ بِالْعِرَاقِ بَعْدَ أَبِي يُوسُفَ، له كتب كثيرة في الفقه والأصول، منها: (المبسوط) في فروع الفقه، و (الزيادات)، و (الجامع الكبير)، و (الجامع الصغير)، توفي سنة تسع وثمانين ومائة (١٨٩ هـ). انظر: تاريخ الإسلام (٤/ ٩٥٤)، وسير أعلام النبلاء (٩/ ١٣٤)، ومناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه (ص: ٧٩)، الأعلام للزركلي (٦/ ٨٠).
(٥) انظر: الحماسة البصرية (٢/ ٣١٤)، والبصائر والذخائر (٥/ ١٢٩).
(٦) المبسوط للسرخسي (٦/ ٧٧).