للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فإن قيل: قد ذكر حكم هذين الوقتين إذا ذكرا بغير الواو، فما حكمها إذا ذكر مع الواو؟.

قلت: قد ذكر في «المبسوط» الفرق بين المسألتين عند ذلك، فقال: ولو قال أنت طالق اليوم وغدًا طلقت للحال واحدة، ثم لا يطلق عرفا؛ لأنّ العطف للاشتراك وقد وضعها بالطّلاق في الوقتين، وهي التّطليقة الواحدة تتصّف بالطّلاق في الوقتين جميعًا، وأمّا إذا قال: غدًا واليوم تطلق واحدة اليوم عندنا وأخرى غدًا؛ لأنّه عطف الجملة النّاقصة على الجملة الكاملة، فالخبر المذكور في الجملة الكاملة يصير معاداً في الجملة النّاقصة، فإنّ العطف للاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الخبر، فكأنّه قال وأنت طالق اليوم وعند زفر (١) -رحمه الله- أنّه لا يطلق إلا واحدة؛ لأنّ صيغة كلامه وصف، وهي بالتّطليقة الواحدة تتصف بأنّها طالق في الوقتين جميعًا (٢).

وجوابه ما ذكرناقوله -رحمه الله- لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: الْيَوْمَ كَانَ تَنْجِيزًا وَالْمُنَجَّزُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ، فإن قلت: هذه الدّعوى إنّما تصح إن لو اقتصر على ذكر اليوم، وأمّا عند ضمّه إلى ذلك ذكر الغد فلا فات أوّل الكلام يتوقّف إلىآخره إذا كان في آخره ما يغيّره.

ألا ترى أنّه إذا قال: طَالِقٌ الْيَوْمَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَهِيَ طَالِقٌ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ، فلم يقل هناك المبحر بذكر اليوم لا يحتمل التّعليق بذكر الشّرط، لما قلنا أنّ أوّل الكلام يتوقّف على آخره، إذا كان في آخره ما يغيّره، فينبغي أن يكون هنا كذلك بأن لا يلقي ذكر الإضافة كما لا يلقي هناك ذكر التّعليق.

قلت: قاله الإمام المحقق شمس الأئمة السرخسي -رحمه الله- في «المبسوط» جوابه، فقال: إنّما تغير حكم أول الكلام هناك؛ لأنّ ذلك تعليق بالشّرط وبذكر الشّرط موصولاً يخرج كلامه من أن يكون تنجيزًا، كما لو قال: أنت طالق اليوم إذا كلمت فلاناً، أو إن كلمت فلاناً لم تطلق قبل الكلام، وتبين بذكر الشّرط أنّ قوله اليوم لبيان وقت التّعليق، لا لبيان وقت الوقوع بخلاف قوله: اليوم غدًا، فإنّ هناك ليس بذكر الشّرط، فيبقى قوله اليوم بيانًا لوقت الوقوع (٣).

وذكر في «الذّخيرة» (٤) (٥) في جواب هذا السؤال فقال: إن قوله: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ إيقاع للحال، وقال: إذا جاء غد تعليق، فقد أتى بالإيقاع والتّعليق فلابدّ من اعتبار أحدهما، فاعتبر بالتعليق؛ لأنّ في اعتبار التعليق الغاء كلمة واحدة، وهي اليوم وفي اعتبار اليوم إلغاء كلمات وهي قوله: إذا جاء غد ولاشك أن الفاء كلمة واحدة أهون، وإذا اعتبرنا التعليق، صار تقدير مسألتنا: أنت طالق إذا جاء غد؛ لأنّ قوله: أنت طالق إيقاع الواحدة من حيث الحقيقة، فلو وقع أخرى في الغد إنّما يقع كيلا يلغو ذكر الغد ولا يلغو ذكر الغد إذا لم يقع أخرى في الغد، فيكون الغد؛ لأنّه جعل الغد طرفاً لكونها طالقاً في الغد، وإذا وقعت واحدة في اليوم، فيبقى ذلك في الغد ظرفاً لكونها طالق في الغد، وقوله -رحمه الله- على ما بيّنا إشارة إلى قوله: لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي الْعُمُومِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُهُ لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ، ولأبي حنيفة (٦) -رحمه الله- أنّه نوى حقيقة كلامه في هذه النكتة جواب عن قولهما بقوله على ما بيّناه أي: أنّه نوى التّخصيص في العموم، فكان هو خلاف الظّاهر، فلا يصدّق قضاءً، فقال: ففي خلاف الظّاهر إنّما يدين في القضاء إذا لم يكن بينة مصادفة لحقيقة كلامه، وههنا صادفت بينة حقيقة كلامه فتدين قضاء وديانة.


(١) المبسوط للسرخسي (٦/ ١١٦).
(٢) المبسوط للسرخسي (٦/ ١١٦).
(٣) المبسوط للسرخسي (٦/ ١١٦).
(٤) كتاب ذخيرة الفتاوىالمشهور: بـ (الذخيرة البرهانية). للإمام، برهان الدين: محمود بن أحمد بن عبد العزيز بن عمر بن مازه البخاري. المتوفى: سنة ٦١٦ هـ، اختصرها من كتابه المشهور بـ (المحيط البرهاني) وهو غير مطبوع فيما أعلم. ينظر: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون (١/ ٨٢٣).
(٥) يُنْظَر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (٣/ ٣٠٩).
(٦) يُنْظَر: الجامع الصغير وشرحه النافع الكبير (ص: ١٩٦)، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (٢/ ٢٠٤).