للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فإن قلت: قد ذكرت من «المبسوط» في أوّل فصل الأمر باليد: أنّ الزّوج إذا قال: لامرأته أمرك بيدك ونوى الواحدة، والمرأة طلقت نفسها ثلاثاً تقع واحدة (١) عندنا - خلافاً لابن أبي ليلى- فعلى ما ذكر ههنا ينبغي أن لا يقع شيء؛ لأنّها أتت بغير ما فوّض إليها؛ لأنّ الثّلاث غير الواحدة على ما ذكر.

قلت: الجواب ما مرّ هناك أيضاً، وهو: أنّ التّفويض لم يتعرّض هناك بشيء فقد يكون خاصاً وقد يكون عامًّا، فإذا نوى الواحدة فقدقصد تفويضاًخاصًا، وهو غير مخالف للظّاهر، فلما وقعت هي ثلاثاً فقد أوقعته فيما هو أصل التّفويض، وهو لا يكون أقلّ من الواحدة فيقع الواحدة والثلاث غير الواحدة.

فإن قلت: أين ذهب قولنا أنّ الواحد لا عين العشرة ولا غيرها؟ فكذلك الواحدة مع الثّلاث لا عين الثّلاث ولا غيرها، فلو لم يقع ما أوقعته من حيث أنّها لا عينها فيقع من حيث أنّها لا غيرها، لكونها موافقة له في ذلك من ذلك الوجه.

قلت: المغايرة بين أسماء الأعداد أصلها ونفسها ثابتة فوق ثبوتها بين ألفاظ العموم والخصوص، حتّى جرى المجاز والاستعارة في ألفاظ العموم والخصوص، بأن يذكر العام ويراد به الخاص، كما في قوله تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ} (٢) أو يذكر العام ويراد به بعضه كما في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (٣) ولم يجز ذلك فيما بين أسماء الأعداد، لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز، لما أنّ ذلك بمنزلة أسماء الأعلام لمسمياتها حتّى أثر وصف العلمية في منع الصرف، فإنّه لو اقترن بها سبب آخر يمتنع الصّرف، فقالوا: ستة ضعف ثلاثة بدون التنوين، فلم يجز أن يذكر زيد ويراد به عمرو لا حقيقة ولا مجازاً، فكذلك لا يجوز أن يذكر عدد معلوم ويراد ما فوقه أو ما تحته، فعلم بهذا أنّ المغايرة بينهما ثابتة من كل وجه.

وأمّا قولنا: لا غيرها فباعتبار عدم تصوّر الأكثر منها بدون الأقلّ منه لا غير، وهو لا يقدح ثبوت المغايرة بينهما؛ لأنّه يجوز أن يكون لأحد المتغايرين أوصاف فلمشاركته للآخر في وصف من الأوصاف لا تثبت العينية، فلما كانت الثلاث مغايرة للواحدة كان الآتي بالثّلاث مخالفاً للأمر بالواحدة لا محالة، ولأنّ قولنا ذلك في العشرة الموجودة.

وأمّا الثّلاث ههنا فمعدوم والواحد الموجود عبر الثّلاث المعدوم لا محالة، وهي بإيقاع الواحدة ما شاءت الثّلاث، فلم يوجد الشّرط، وأمّا لو قال: لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شِئْت، فَقَالَتْ: قَدْ شِئْت واحدة وواحدة وواحدة، وقع عليها ثلاث تطليقات دخل بها أو لم يدخل؛ لأنّ تمام الشّرط بآخر كلامها، فما لم يتم الشّرط لم ينزل الجزاء، ولهذا وقع الثّلاث عند تمام الشّرط جملة، ولو قالت: قد شئت واحدة فسكتت، ثم قالت: قد شئت واحدة وواحدة، لم يقع عليها شيء؛ لأنّ كلامها يفرق بسكوتها، وهي في الكلام الأوّل شاءت غير ما جعله الزّوج شرطًا؛ لأنّ الشّرط مشيئتها الثّلاث، وَقَدْ شَاءَتْ الْوَاحِدَةَ وَاشْتِغَالُهَا بِمَشِيئَةٍ أُخْرَى يَكُونُ رَدًّا لِلْمَشِيئَةِ التي جعلها الزّوج شرطًا، فكان هذا بمنزلة قولها: لا أشاء، ولو قالت ذلك، لم يكن لها مشيئة بعد ذلك، فكذلك ههنا - كذا في «المبسوط» (٤) -، وهي بإيقاع الواحدة ما شاءت الثّلاث فلم يوجد الشرط فلذلك لم يقع شيء.


(١) يُنْظَر: المبسوط للسرخسي (٦/ ٢٢١).
(٢) [آل عمران: ٣٩].
(٣) [التوبة: ٥].
(٤) يُنْظَر: المبسوط للسرخسي (٦/ ١٩٩، ٢٠٠).