للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فإن قلت: ما وجه الفرق بين هذه المسألة، وبين قوله لها: طلّقي نفسك ثلاثاً، فطلقت واحدة يقع واحدة والصورة واحدة، ثمّ في تلك المسألة جعلها مالكة لإيقاع الواحدة، حتّى جعل إيقاعها الواحدة إيقاعاً لها وهنا لم يجعلها مالكة لإيقاع الواحدة، حتّى لم يقع شيء بإيقاعها الواحدة؟.

قلت: جعل ههنا أيضاً مالكة لإيقاع الواحدة إذا ملك إيقاع الثّلاث ملك لاجزاء الثّلاث، وإنّما لم تقع الواحدة عند إيقاع الواحدة لعدم وجود الشّرط؛ لأنّ الشّرط لوقوع الطّلاق مشيئة الثّلاث فبوجود مشيئة الواحدة لم يوجد مشيئته الثّلاث ولم يقع الواحدة أيضاً؛ لأنّ المشروط لا يتوزع على أجزاء الشّرط.

ألا ترى أن الرجل إذا قال لامرأته: إن دخلت هذه الدّار وهذه الدّار [وهذه الدار] (١) فأنت طالق ثلاثاً، فدخلت إحدى هذه الأَدْؤُرٌ الثّلاث لا تقع الواحدة فكذا هنا.

وأمّا في تلك المسألة فليس فيه شرطًا، فلما ملكت الثّلاث ملكت إيقاع الواحدة فوقعت الواحدة بإيقاعها، فخرج الأمر من يدها كما لو علقت لمشيئة رجل آخر، ولا يقع الثّلاث بقوله: شئت.

فإن قيل: كان ينبغي أن يقع بقول الزّوج شئت؛ لأنّه يملك إيقاع الطّلاق بهذا اللّفظ، قلنا: إنما يملك الإيقاع بمشيئة الطّلاق وهو بهذا اللّفظ شاء مشيئتها؛ لأنّه قصد جوابها حتّى لو قال: شئت الطّلاق يقع إذا نوى كذا في «المبسوط» (٢).

قوله -رحمه الله-: حَتَّى لَوْ قَالَ: شِئْت طَلَاقَك يَقَعُ إذَا نَوَى، سواء ذكر هذا اللّفظ، وهو قوله: شِئْت طَلَاقَك، بمقابلة جوابها، أو ذكره ابتداء يقع الطّلاق.

بخلاف قوله: شئت من غير ذكر الطّلاق، إذاً المشيئة تنبئ عن الوجود، فصار كأنّه قال أوقعت طلاقك؛ وهذا لأنّ المشيئة في الأصل مأخوذة من الشيء، والشيء اسم للموجود فكان قوله: شئت بمنزلة قوله: أوجدت، وإيجاد الطّلاق بإيقاعه.

بخلاف الإرادة، فإنّها في اللغة عبارة عن الطّلب، قال النبي -عليه السلام-: «الْحُمَّى رَائِدُ الْمَوْتِ» (٣)، أَيْ طَالِبُهُ وَفِي الْمَثَلِ السَّائِرِ: أَهْلَهُيْ طَالِبُ الْكَلَأِ أَوْ الْغَيْثِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الطَّلَبِ الْوُجُودُ، وروي عن أبي حنيفة -رحمه الله- ما يدل على التفرقة بين المشيئة والإرادة، استدلالاً بهذه المسألة، ويجوز أن يكون بينهما تفرقة بالنّسبة إلى العباد وتسويةبالنّسبة إلى الله تعالى؛ لأن ما شاء الله يوجد لا محالة، وكذا ما يطلبه بخلاف العباد -كذا في «الفوائد الظهيرية» (٤) ثمّ مع هذا إنّما يشترط النيّة في قوله: سبب طلاقك مع ذكر الطّلاق فإنّه قد يقصد: وجوده وقوعًا وقد يقصد وجوده ملكًا، فلابدّ من النيّة لتعيّن جهة الوجود ووقوعًا، وذكر في «المحيط»، وإذا قال لها: شئت طلاقك ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- في شرحه أنّه يقع الطّلاق ولم يشترط نية الإيقاع (٥).


(١) سقط من (ب).
(٢) يُنْظَر: المبسوط للسرخسي (٦/ ٢٠٢).
(٣) أخرجه أبي نعيم الأصفهاني في الطب النبوي (باب الحميات وصفاتها وأدويتها/ ٥٨١)، والشهاب القضاعي في مسنده (باب الْحُمَّى رَائِدُ الْمَوْتِ/ ٥٨)، والبيهقي في شعب الإيمان (٩٤٠٤)، وقال أبو الفضل العراقي: "وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ جَهَالَةٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُرَقَّعِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ" فذكره. ينظر: طرح التثريب في شرح التقريب (٨/ ١٨٨).
(٤) يُنْظَر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (٢/ ٢٢٨)، البناية شرح الهداية (٥/ ٣٩٩).
(٥) المحيط البرهاني في الفقه النعماني (٣/ ٢١٠).