للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وفي «المبسوط» رجل قال لامرأته شائي الطلاق، ينوي به الطلاق، فقالت: قد شئت، فهي طالق، وإن لم يكن له نية فليست بطالق، لما بيّنا أن مشيئتها من عمل فلها كاختيارها فهذا بمنزلة قوله: اختاري الطّلاق، فقالت: قد اخترت، وهناك إن نوى الزّوج الإيقاع يقع، فكذلك في المشيئة، فإن قَالَ: أَحِبِّي الطَّلَاقَ أَوْ أَرِيدِي الطَّلَاقَ أو أهوي الطّلاق، فقالت: قد فعلت كان باطلاً، وإن نوى به الطّلاق؛ لأنّ الإرادة والمحبة والهوى من العباد نوع ثمن، فكأنه قال: تمني الطّلاق فقالت: تمنيت لا يقع؛ وهذا لأنّ المشيئة في صفات المخلوقين ألزم في اللّغة من الإرادة والهوى والمحبة، ألا ترى أنّ المشيئة، لا تذكر مضافة إلى غير العقلاء، وقد تذكر الإرادة قال الله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} (١) وليس إلى الجدار من الإرادة شيء؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِشَرْطٍ كَائِنٍ تَنْجِيزٌ؛ أي: بشرط ثابت موجود كما إذا قال: امرأتي طالق إن كان زيد في الدّار والحال أنّه في الدّار يقع الطّلاق (٢).

فإن قيل: لو كان التّعليق بشرط كان تنجيزًا لكان تنجيزًا، فيما إذا قال الرجل هو يهودي إن كنت فعلت كذا أمس وهو يعلم أنّه كان قد فعله، ولو كان تنجيزًا لوجب تكفيره ولم يجب.

قلنا: قال شيخ الإسلام خواهر زاده (٣) -رحمه الله-: اختلف المشايخ في هذه المسألة فتمنع، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ نَقُولُ: هَذِهِ الْأَلْفَاظُ صَارَتْ كِنَايَةً عَنْ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى إذَا حَصَلَ التَّعْلِيقُ بِهَا بِفِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ (٤)، فكذا إذا حصل التّعليق بفعل في الماضي تحامياً عن تكفير المسلم، ولا تطلق نفسها إلا واحدة؛ لأنّها تعم الأزمان دون الأفعال، بخلاف كلمه كلها فإن فيها تستوفي الطلاقات الثلاث مرّة بعد أخرى؛ فإنّها تعم الأفعال بالتّكرار على ما يجيء، لكن الأمر صار في يدها، فلا يخرج بالشّك، يعني: لو نظرنا إلى كونه للشّرط يخرج الأمر من يدها بالقيام عن المجلس، ولو نظرنا إلى كونه للوقت لا يخرج، والأمر كان في يدها فلا يخرج بالشك.


(١) [الكهف: ٧٧].
(٢) يُنْظَر: المبسوط للسرخسي (٦/ ٢٠١، ٢٠٢).
(٣) محمد بن الحسين بن محمد، أبو بكر البخاري، المعروف ببكر خواهر زاده، أو خواهر زاده: فقيه. كان شيخ الأحناف فيما وراء النهر. له (المبسوط) و (المختصر) توفي في جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة. انظر: تاج التراجم لابن قطلوبغا (ص: ٢٥٩)، والأعلام للزركلي (٦/ ١٠٠).
(٤) ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (٤/ ٢٠٥).