للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإذا كان المستثنى نصف تطليقة صار كلامه عبارة عن تطليقتين ونصف، فتطلق ثلاثاً، ولا يصحّ استثناء الكلّ من الكلّ؛ لأنّه لا يبقى شيء يصير متكلّمًا به، فلمّا لم يبق شيء ههنا بعد الاستثناء لم يجعل متكلّمًا بما بقي، فبقي كلامه الأوّل كما كان، فيقع الثّلاث.

فظنّ بعض أصحابنا (١) أن استثناء الكلّ رجوع، والرجوع عن الطّلاق باطل، فلذلك لم يصحّ وهذا وهم منهم، لما أنّه أبطل استثناء الكلّ في الوصيّة - أيضاً - مع أنّ الوصيّة تحتمل الرّجوع.

فدلّ أنّ الطّريق ما قلنا، ولو قال: أنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (٢) -رحمه الله- يطلق ثلاثاً؛ لأنّ عطف بعض الكلمات على البعض والعطف للاشتراك، وعند ذلك صار مستثنى للكلّ، فكأنه قال: إلا ثلاثاً، وهو الظّاهر من قول أبي يوسف (٣)، وروي عنه أنّه يقع واحدة، وهو قول زفر (٤)؛ لأنّه لو قال: إلا واحدة وواحدة كان مستثنى للثنتين، فكان صحيحًا، وإنّما بطل استثناء [الثالثة] فقط كذا في «المبسوط» (٥).

وذكر في زيادات المصنف-رحمه الله (٦) -أنّ استثناء الكلّ من الكلّ إنّما لا يصحّ، إذا كان تعيّن ذلك اللّفظ، أي: تعين لفظ المستثنى منه.

وأمّا إذا استثنى بغير ذكر اللّفظ فيصحّ، وإن كان هو استثناء الكلّ [من الكل] من حيث المعنى، فإنّه لو قال: كُلُّ نِسَائِي طَوَالِقُإلَّا كُلَّ نِسَائِي، لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ بل يطلق كلّهن.

ولو قال: كلّ نسائي يَقُولَ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا زَيْنَبَ وَهِنْدَ وَعَمْرَةَ وَبَكْرَةَ، لا تطلق واحدة منهنّ، وإن كان هو استثناء الكلّ من الكلّ، فكذلك لو قال: ثلث مالي لزيد إلا ثلث مالي، لا يصحّ الاستثناء.

ولو قال: ثلث مالي لزيد إلا ألفاً، وثلث ماله ألف صحّ الاستثناء، وذكر في «المحيط» و «الذّخيرة» (٧)، وذكر القدوري في شرحه إذا أوقع [أكثر] من ثلث، ثم استثنى كان الاستثناء من جملة الكلام، لا من جملة الثّلاث التي يحكم بوقوعها نحو] أن يقول: أنت طالق عشرًا إلا تسعًا، وقعت واحدة فقد صح الاستثناء في هذه الصورة (٨) (٩) أن كان هذا استثناء الكلّ من الكلّ لفظًا، وروي عن محمّد - في النّوادر - نسائي طوالق إلا فلانة وفلانة، وليس له من النسوة سواهنّ صحّ الاستثناء (١٠)، وفي البقالي (١١) به إذا كان كلّ مرأة لي طالق إلا هذه، وليس له غيرها لم تطلق، ثم كما يصحّ الاستثناء من أصل الكلام يصحّ الاستثناء من الاستثناء (١٢)، قال الله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلَّا امْرَأَتَهُ} (١٣) إنّه استثنى آل لوط من جملة النّاس، واستثنى امرأة لوط من آله، بيان هذا إذا قال: لها أنت طالق ثلاثاً إلا الاثنين إلا واحدة، يقع ثنتان، والأصل في جنس هذه المسائل أنّ المستثنى ثانياً يجعل مستثنى من الاستثناء الأول، وهو ببيان، ثم ينظر إلى ما بقي من الاستثناء الأوّل فيجعل ذلك مستثنى من أصل الكلام، إذا ثبت هذا فيقول: الاستثناء الثّاني واحدة يجعل مستثنى من الاستثناء الأوّل وهو ببيان، بقي من الاستثناء الأوّل واحدة، فيجعل ذلك مستثنى من أصل الكلام، وهو الثلاث يبقى من أصل الكلام ببيان فهي الواقع.


(١) المشهور إطلاق أصحابنا على الائمة الثلاث، وأحيانا يطلق على أبي يوسف ومحمد، وأحيانا يُراد به عامة علماء الحنفية. يُنْظَر: المذهب الحنفي مراحله وطبقاته لأحمد النقيب.
(٢) يُنْظَر: المبسوط للسرخسي (٦/ ٩٢).
(٣) يُنْظَر: المبسوط للسرخسي (٦/ ٩٢).
(٤) يُنْظَر: المبسوط للسرخسي (٦/ ٩٢).
(٥) يُنْظَر: المبسوط للسرخسي (٦/ ٩٢).
(٦) ينظر: العناية شرح الهداية (٤/ ١٤٣).
(٧) يُنْظَر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (٣/ ٢٩٠)، والدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (٥/ ٦٠٥).
(٨) زيادة في (ب).
(٩) ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (٣/ ٢٩٠).
(١٠) ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (٤/ ٨٥).
(١١) محمد بن أبي القاسم بن بابجوك، البقالي الخوارزمي، أبو الفضل الملقب بزين المشايخ: عالم بالأدب، مفسر، فقيه حنفي، من أهل خوارزم .. من كتبه (منازل العرب ومياهها)، و (الهداية) في المعاني والبيان، و (الفتاوى)، مات في جمادى الآخرة، سنة اثنتين وستين وخمسمائة، وله بضع وسبعون سنة. ينظر: الأعلام للزركلي (٦/ ٣٣٥)، وطبقات المفسرين للسيوطي (ص: ١١٧).
(١٢) ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (٤/ ٨٥).
(١٣) [الحجر: ٥٩ - ٦٠].