للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

فإن قلت: ما معنى إقامة الشهادة مقام المحدود في الطرفين، وما المناسبة بين الحدّ والشهادة؟.

قلت: لأنّ الحدّ سبب الهلاك والاستشهاد بالله كاذباً مع اللعن على نفسه سبب الهلاك -أيضاً-، وكذلك في حق المرأة بمنزلة حدّ الزنا في زعم الرجل؛ لأنّه مهلك في حقها، لأنها كاذبة في زعم الرجل في شهادتها، إلى هذا أشار فخر الإسلام في مبسوطه.

وقوله: ومقام حدّ الزنا في حقها حتّى لو قذف امرأته مراراً فعليه لعان واحد كالحدّ في حق الأجنبيات.

فإن قلت: يشكل على هذا ما لو قذف أربع نسوة له في كلمة واحدة، أو [في] (١) كلام متفرق فعليه أن يلاعن كلّ واحدة منهنّ على حدة، وأمّا لو قذف أجنبيات فإنّه يقام عليه حدّ القذف لهنّ مرة واحدة، فلو كان اللعان قائمًا مقام حدّ القذف في حقه لجرى ذلك مثل جريانه من الاتحاد والتعدد.

قلت: إنّما كان هكذا؛ لأنّ المقصود هناك يحصل بإقامة حدّ واحد، وهو دفع عار الزنا عنهنّ، وههنا لا يحصل المقصود بلعان واحد؛ لأنّه يتعذر الجمع بينهنّ في كلمات اللعان، فقد يكون صادقاً في حق بعضهن دون البعض، والمقصود التفريق بينه وبينهن ولا يحصل ذلك بلعان بعضهنّ، فلهذا يلاعن كلّ واحدة منهنّ على حدة حتّى لو كان محدودًا في قذف كان عليه حدّ واحد لهن؛ لأنّ موجب قذفه لهن الحدّ ههنا، والمقصود يحصل بحد واحد كما في الأجنبيات كذا في «المبسوط» (٢).

{وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} (٣) وجه التمسّك به أنّ الله تعالى استثنى الأزواج من الشهداء، وهو دليل كونه شهادة توضحه أنّ اللعان يختص بلفظ الشهادة، ولو كان عينًا لكان لا يختصّ بها اعتباراً بعامة الأيمان، ولأنّ الزوج هو البادي باللعان والزّوج مُدّع، وإنّما يبدأ المدّعي بالشّهادة لا باليمين.

فإن قلت: فيه دلائل تدلّ على أنّها يمين.

أحدها: أن الشّهادة لم تشرع حجّة للشّاهد، وكل واحد منهما يشهد لنفسه، واليمين شرعت حجّة للحالف، ولأنّ الشّهادة وضعت للإثبات، واليمين وضعت للنفي، والجمع بين النّفي والإثبات متعذّر، فلابدّ من العمل بأحدهما حقيقة وبالآخر مجازاً، والعمل بحقيقة اليمين أولى؛ لأن لفظ الشّهادة يحتمل معنى اليمين.

بخلاف العكس، ولأنّ هذه الكلمات شرعت مكرّرة، والتكرار مشروع في الأيمان كما في القسامة دون الشّهادة.

قلت: أمّا الأول: فإن شهادة الإنسان لنفسه إنّما لم تشرع حجة بمكان التهمة، لا لأنّه لا يصلح شهادة، ألا ترى أنّ الله تعالى شهد لذاته بالوحدانية، وكان من أصدق الشهادات لانتفاء التهمة والتهمة فيما نحن فيه منفية باليمين.


(١) سقطت من (أ).
(٢) المبسوط للسرخسي (٧/ ٤٩).
(٣) سورة النور (٦).