للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

قلت: بل يلزمك؛ لأنّه لما ثبت وجوب نفقة ذي الرحم المحرم بقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (١) لم يعتبر إنكار منكر بعد ذلك، لما أنّ الثّابت بالدّليل يجعل كأنّه ثابت إجماعاً.

فإن قلت: لاشكّ أن عتق القريب عند الملك للصّلة له، وصلة جميع القرابات غير لازم بالإجماع، حتّى لو ملك ابن عمّه لا يعتق، فوجب علينا تفصيل القرابات، وهي ثلاثة: قرابة قريبة، وهي قرابة الولاد، وقرابة معتدة، وهي قرابة بني الأعمام، وقرابة متوسطة، وهي قرابة الأخوة والعمومة، فلابدّ أن يرد المتوسطة إلى أشبههما منه وهي تشبه قرابة بني الأعمام؛ لأنّ قرابتهم قرابة جواز في الرحم، وقرابة الولاد بالبعض، والأحكام تدلّ عليه فإنّ القصاص يجري بينهم في الطّرفين، وتحجب عن الإرث بالأولى، ويقبل شهادة كلّ واحد منهما لصاحبه، ويحل وضع الزكاة فيه، ولا يتكاتب على المكاتب إذا ملك محارمه غير الولاد، ولا يعتق عليه إذا قال: أنّه أخي، كما لا يعتق إذا قال: أنّه ابن عمي، ويحلّ لكلّ واحد منهما حليله صاحبه، ولا يستوجب كلّ واحد النّفقة على صاحبه عند اختلاف الدّينين، وهذه أحكام ثمانية، مع المعنى الذي هو تاسعها يدل على أنّ المتوسّطة بالبعيدة أشبه، فمع وجود المعنى الجامع بينهما من هذه الوجوه كيف ينفكّان فيما تنازعا فيه؟.

قلت: هذا في الحقيقة ترجيح بكثرة الأشياء والتّرجيح بها فاسد؛ لأن الأصول شواهد، وقد عرف أنّ الترجيح بزيادة عدد الشّهود في الخصومات فاسد، وفي الأحكام التّرجيح بكثرة العلل فاسد، فكذلك الترجيح بكثرة الأشياء فاسد، كذا ذكره شمس الأئمة -رحمه الله- في فصل الفاسد من الترجيح من أصول الفقه.

وذكر في «الأسرار» فساد كلّ واحد منها في الترجيح بطريق التفصيل والتعيين، ومن أراد معرفة ذلك فعليه بمطالعة «الأسرار»؛ ولأنّ قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب: «ومن ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه» أجرى الحكم عاماً في كلّ ذي رحم محرم منه، فكان التّعليل بالولاد ردًّا للمنصوص، فكان تعليله مردودًا؛ لما أنّ التعليل يجب أن يكون موافقًا للنصوص لا مخالفًا لها، والتّعليل -وإن كثر شواهده- فهو غير مقبول في معرض النصّ، ولأنّ حرمة المناكحة لما ثبت بهذه القرابة لمعنى الصيانة عن ذل الاستفراش والاستخدام قهراً، وكذلك يثبت حرمة الجمع بين الأختين نكاحاً صيانة للقرابة عن القطيعة بسبب المنافرة التي يكون بين الضراير علمنا أن هذه القرابة واجب وصلها، كقرابة الولاد ومعنى قطيعة الرحم في استدامة ملك اليمين أكثر، ولا شك أنّ للملك تأثيراً في استحقاق الصلّة، فثبت بهذا التّقرير أن علة العتق هذان الوصفان، وبعد هذا لا يضرّنا انتفاء الجزئية، كذا في «المبسوط» (٢).


(١) سورة البقرة: ٢٣٣.
(٢) المبسوط للسرخسي (٧/ ٧١).