للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومنهم من تعلل فيقول: رحمة الله الجنّة قال الله تعالى (فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (١)، وإذا كانت الرحمة بمعنى الجنة والسّخط والغضب بمعنى النّار يكون حلفاً بغير الله وهذا أيضاً غير مرضي عندنا فإنّ الرحمة والغضب صفة الله تعالى.

والأصحّ أن يقول: الأيمان مبنية على العرف والعادة فما تعارف النّاس الحلف به يكون يمينًا وإلا فلا، والحلف بقدرة الله وكبريائه وعظمته متعارف وبرحمته وغضبه غير متعارف ولهذا (لم يجعل قوله وعلم الله يمينًا)؛ لأن الحلف بها غير متعارف

[٤٢١/ ب] ولهذا قال محمّد -رحمه الله-: وأمانة الله أنّه يمين ثم لما سئل عن معناه قال: لا أدري. فكأنه وجد العرب يحلفون بأمانة الله عادة، فجعله يمينًا، وفيه خلاف الطّحاوي (٢) -رحمه الله- فوجه رواية الأصل أنّه يتعذّر الإشارة إلى شيء بعينه على الخصوص أنّه أمانة، والحلف به متعارف فعلمنا أنّهم يريدون به الصّفة فكأنّه قال والله الأمين) /

(ومن حلف بغير الله لم يكن حالفًا) إلى قوله فليحلف بالله أو ليذر.

فإن قلت: قد أقسم الله تعالى بغير ذاته وصفاته كقوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (٣) وقال (وَالضُّحَى (١) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} (٤) وقال: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (٣٨) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} (٥) وغيرها من الآيات فهذا يؤذن على جواز أن يقسم بغير اسم الله وصفاته لما ذكرت أن اقسامه إذن بالإقسام، وذلك لأن ما عظمه الله تعالى فهو واجب التّعظيم، وفي الإقسام بالشّيء تعظيم للمقيم فلا يبعد أن يكون للعبد ولاية تعظيم ما عظمه الله تعالى بالقسم كالله تعالى فكيف جاء النّهي عنه؟

قلت: لا يصحّ هذا القياس؛ لأنّ لله تعالى ولاية الإيجاد والإعدام والأمر والنّهي والتّعظيم والتّحفيز فلما نهى الله تعالى عبده عن الحلف بغيره، لم يبق للعبد ولاية أن يحلف بغيره فإن الله تعالى مفترض الطّاعة واحترام اسمه فرض لا زوال له واحترام غيره مما له زوال؛ فإن حرمته لم يكن لذاته فمن الجائز إن زالت حرمته أو إن لم يزل لكن العبد لا يدري بأي وجه يجوز التّعظيم، فلما نهى الله تعالى العبد عن تعظيم غيره بوجه الإقسام، يجب على العبد أن ينتهي. وأمّا الله تعالى فله ولاية أن يثبت الحرمة لمن شاء بما شاء إلى أي وقت شاء وليس للعبد ذلك، وأمّا ما اعتاد النّاس من الحلف بجان سرتو فإن اعتقد أنّه حلف واعتقد أن البر به واجب يكفر. كذا في محاسن الشّرائع (٦) وذكر في تتمة الفتاوى قال علي الرازي (٧) -رحمه الله-: أخاف على من قال بحياتي وحياتك وما أشبه ذلك؛ أنّه يكفر. ولولا أن العامة يقولون ولا يعلمونه لقلت: أنّه شرك؛ لأنّه لا يمين إلا بالله، وإنّما جعل الله تعالى اليمين بالله ليرعوي الرجل؛ أي ليمتنع الرجل إذا ذكر الله فلا يحلف هو وإذا حلف بغير الله فكأنه أشرك معه، وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: «لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أن أحلف بغير الله صادقًا» (٨).


(١) سورة آل عمران آية: (١٠٧).
(٢) مختصر الطحاوي في فروع الحنفية للإمام أبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي الحنفي ألفه كبيرا وصغيرا، ورتبه كترتيب مختصر المزني (ت ٣٢١ هـ)، وقد أولع الناس في شرحه. انظر: كشف الظنون (٢/ ١٦٢٧).
(٣) سورة الليل آية: (١).
(٤) سورة الضحى آية: (١).
(٥) سورة الحاقة آية: (٣٩).
(٦) انظر: البحر الرائق (٤/ ٣١١).
(٧) عَليّ بن أَحْمد بن مكي الرَّازِيّ الإِمَام حسام الدّين.
انظر: الجواهر المضية في طبقات الحنفية (١/ ٣٥٣).
(٨) الحديث: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: لَأَنْ أَحْلِفَ بِاللهِ كَاذِبًا، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ (٩/ ١٨٣)، من مناقب ابن مسعود -رضي الله عنه-، رقم الحديث (٨٩٠٢)، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ. (رواه موقوفاً). وأخرجه عبد الرزاق (٨/ ٤٦٨)، كتاب الأيمان والنذور، رقم (٢١) باب: الأَيمَانُ، ولا يُحلَفُ إلَّا بالله، رقم الحديث (١٥٩٢٩). وصححه الألباني في الإرواء: (٨/ ١٩١)، رقم (٢٥٦٢)، وصحِيح التَّرغِيب والتَّرهِيب: (٣/ ٧٦)، كتاب الأدب وغيره، الترهيب من الحلف بغير الله سيما بالأمانة ومن قوله أنا بريء من الإسلام أو كافر ونحو ذلك) رقم الحديث (٢٩٥٣).