للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[٤٢٥/ أ] … وأمّا معنى اليمين؛ فلأنّه قصد به المنع عن إيجاد الشرط؛ لأن الإنسان يمتنع عن التزام هذه الطّاعات بالنّذر مخافة أن لا يفي بها فيلحقه الوعيد الذي ذكره الله تعالى بقوله: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} (١) إلى قوله: (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (٢)، فإذا جعل دخول الدّار علامة التزامه، ويكون ممتنعًا من التزامه كان يمينًا/ وكذلك من حيث العرف يسمّى يمينًا. يقال: حلف بالنّذر فلوجود اسم اليمين ومعناها قلنا: يخرج بالكفارة ولوجود معنى النّذر. قلنا: لا يخرج عنه إلا بعين ما التزم، بخلاف النّذر الملتزم، فاسم اليمين ومعناها غير موجود فيه، وكذلك المعلّق بشرط يريد كونه؛ لأن معنى اليمين غير موجود فيه وهو القصد إلى المنع، بل قصده إظهار الرغبة فيما جعله شرطًا.

والتخيير بين القليل والكثير في الجنس الواحد باعتبار معنيين مختلفين جائز، كالعبد إذا أذن له مولاه بالجمعة، يتخير بين أداء الجمعة ركعتين أو الظّهر أربعًا، فهذا مثله) كذا في المبسوط. (٣)

إلى أي الجهتين شاء أي النّذر واليمين إذا كان فقيرًا يصوم ثلاثة أيّام أو يصوم صوم نذر سنة، وهذا التخيير جائز لاختلاف النّذر واليمين معنىً، وإن اتخذا صورة ومن حلف على يمين أي محلوف عليه من فعل شيء أو تركه. وقد ذكرناه وفي المبسوط. (٤) (وإذا حلف على يمين أو نذر وقال: إن شاء الله متّصلًا به فلا شيء عليه عندنا وقال مالك -رحمه الله- (٥): يلزمه حكم اليمين والنّذر لأن الأمور كلّها بمشيئة الله تعالى، فلا يتغيّر بذكره حكم الكلام.

ولكنا نستدلّ بقوله تعالى: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} (٦) ولم يصبر ولم يعاتب على ذلك والوعد من الأنبياء كالعهد من غيرهم. وعن ابن مسعود وابن عمر وابن عبّاس -رضي الله عنهم- موقوفًا ومرفوعًا: «من حلف على يمين وقال: إن شاء الله فقد استثنى ولا حنث عليه ولا كفارة» (٧) إلا أنّ ابن عبّاس -رضي الله عنه- كان يُجَوِّز الاستثناء وإن كان مفصولًا، لقوله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (٨) يعني إذا نسيت الاستثناء موصولًا، فاستثن مفصولًا ولسنا نأخذ بهذا فإن الله تعالى بيَّن حكم الزّوج الثّاني بعد التطليقات الثلاث، ولو كان الاستثناء المفصول صحيحًا لكان المطلق يستثنى إذا ندم فلا حاجة إلى المحلّل، وفي تصحيح الاستثناء مفصولًا إخراج العقود كلّها من البيوع والأنكحة من أن تكون ملزمة، وإلى هذا أشار أبو حنيفة -رضي الله عنه- حين عاتبه الخليفة فقال: أبلغ من قدرك أن تخالف جدي؟ قال: في ماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: في الاستثناء المفصول، فقال: إنّما خالفته مراعاة لعهودك، فإذا جاز الاستثناء المفصول فبارك الله لك في عهودك إذًا، فإنّهم يبايعونك ويحلفون ثم يخرجون ويستثنون، فلا يبقى عليهم لزوم طاعتك، فندم الخليفة وقال: استر هذا على تأويل قوله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (٩) أي إذا لم تذكر في أوّل كلامك فاذكره في آخر كلامك موصولًا بكلامك.


(١) سورة الحديد آية: (٢٧).
(٢) سورة الحديد آية: (٢٧).
(٣) انظر المبسوط للسرخسي (٨/ ١٣٦ - ١٣٧).
(٤) انظر المبسوط للسرخسي (٨/ ١٤٣ - ١٤٤).
(٥) انظر: المدونة للإمام مالك (١/ ٥٨٤).
(٦) سورة الكهف آية: (٦٩).
(٧) عن نافعٍ، عَن ابن عُمر، يَبلُغُ به النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: " من حَلف على يَمينٍ، فقال: إن شاء الله فقد استثنى " أخرجه أبو داود (٣/ ٢٢٥)، كتاب الأيمان والنذور، رقم (٢١)، باب الاستثناء في اليمين، رقم الحديث (٣٢٦١)، والترمذي (٤/ ١٠٨)، أبواب النذور والأيمان، رقم (١٨)، باب ما جاء في الاستثناء في اليمين، رقم (٧)، رقم الحديث (١٥٣١)، والنسائي (٧/ ٢٥)، كتاب الأيمان والنذور، رقم (٣٥)، باب الاستثناء، رقم الحديث (٣٨٢٩)، وابن ماجه (١/ ٦٨٠)، كتاب الكفارات، رقم (١١)، باب الاستثناء في اليمين، رقم (٦)، رقم الحديث (٢١٠٦)، وابن حبان (١٠، ١٨٢)، كتاب الأيمان، ذِكرُ إِباحةِ الاستثناء للحالف في يَمينهِ إذا أَعقبها إِيَّاه، رقم (٤٣٣٩)، والحاكم (٤/ ٣٣٦)، كتاب الأدب، كتاب الأيمان والنذور، رقم (٧٨٣٢)، والبيهقي (١٠/ ٧٩)، كتاب الأيمان، باب الاستثناء في اليمين، رقم (١٩٩١٤) وأحمد (٤/ ٢٨٩)، مسند عبدالله بن عمر بن الخطاب، رقم (٤٥١٠) من طرق كثيرة كلهم من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر مرفوعا بألفاظ متقاربة والمعنى واحد.
قال الترمذي: حديث حسن، ولا نعلم أحدا رفعه غير أيوب وقال البيهقي: وقد روى من طريق حسان بن عطية، وكثير بن فرقد، وموسى بن عقبه عن نافع عن ابن عمر مرفوعا ولا يكاد يصح رفعه إلا من جهة أيوب وقال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. قلت: قد توبع أيوب فقد أخرجه النسائي (٧/ ٢٥) والحاكم (٤/ ٣٣٦) وابن حبان في الثقات (٢/ ٢٥١) كلهم من طريق كثير بن فرقد أن نافعا حدثهم به مرفوعا وصححه الحاكم، وأقره الذهبي، وهو كما قالا رجاله رجال البخاري، وقد صرح ابن فرقد بالتحديث. وتوبع كثير أيضا فقد أخرجه ابن حبان (٤٣٣٩) من طريق أيوب بن موسى المكي، وإسناده حسن وأيوب هذا غير السختياني، فداك ابن أبي تميمة. وجاء في نصب الراية (٣/ ٣٠١) ما ملخصه، قال الدار قنطي: قد توبع أيوب السختياني على رفعه تابعه أيوب المكي والأوزاعي اهـ. وانظر تلخيص الحبير (٤/ ١٦٨ - ١٦٧) وعلى كل حال، فمثله لا يقال بالرأي فالصواب أن ابن عمر سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإن ذكره أحيانا فلم يرفعه. وأيوب وحده ثقة ثبت، وقد رفعه وتوبع عليه.
انظر: فتح القدير كتاب الأيمان ص (٩٠).
(٨) سورة الكهف آية: (٢٤).
(٩) سورة الكهف آية: (٢٤).