للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

(وعن أبي حنيفة -رحمه الله- أنّه يرجع عنه) أي رجع عن تعيين الوفاء بنفس النّذر إلى القول بالتّخيير بين كفارة اليمين وبين الوفاء تعيّن ما التزم به، وحاصله أنّه إن علق النّذر بشرط يريد كونه كقوله: إن شفى الله مريضي، أو رد الله غائبي لا يخرج عنه بالكفارة. وإن علّق بشرط لا يريد كونه، كدخول الدّار ونحوه يتخير بين الكفارة، وبين عين ما التزم. هكذا رُوي عن محمّد -رحمه الله- وهو قول الشّافعي -رحمه الله- (١) في الجديد وكان يقول في القديم يتعيّن كفارة اليمين.

ورُوي أن أبا حنيفة -رحمه الله- رجع إلى التخيير أيضًا فإن عبد العزيز بن خالد الترمذي (٢) -رحمه الله- قال: خرجت حاجًا فلما دخلت الكوفة قرأت كتاب النّذور والكفّارات على أبي حنيفة -رحمه الله- فلما انتهت إلى هذه المسألة قال: قف فإن من رأيي أن أرجع، فلما رجعت من الحج إذا أبو حنيفة -رحمه الله- قد توفي فأخبرني الوليد بن أبان (٣) أنّه رجع قبل موته بسبعة أيّام. فقال: يتخير، وبهذا كان يفتي إسماعيل الزّاهد -رحمه الله- (٤). قال شمس الأئمة السرخسي -رحمه الله- (٥): وهذا اختياري أيضًا لكثرة البلوى به في هذا الزمان، فوجه قوله الأول إطلاق.

«قوله -عليه السلام-: من نذر نذرًا وسمّى فعليه الوفاء بما سمّى» (٦) ولأن معنى اليمين لا يوجد ههنا؛ لأنّه ليس في معنى تعظيم المقسم به؛ ولأنّه جعل دخول الدّار علامة التزام الصّوم والصّدقة وفي هذا الالتزام معنى القربة، والمسلم لا يمتنع القربة، فلم يكن فيه معنى اليمين، فلا يكون له خيره حانث اليمين بالكفّارة (ووجه قوله الآخر قوله -عليه السلام-: «النّذر يمين وكفارته كفارة اليمين» (٧)، فيحمل هذا على النّذر المعلّق بالشّرط وما رواه على النّذر المرسل، أو المعلق بما يريد كونه ليكون جمعًا بين الآثار. والمعنى فيه أن كلامه يشتمل على معنى النّذر واليمين جميعًا أمّا معنى النّذر فظاهر.


(١) انظر: التنبية في الفقه الشافعي للشيرازي (١/ ٨٤).
(٢) هو عبد العزيز بن خالد التِّرمذيّ من أصحاب الإِمام أخذ عنه الفِقه من أقرَان نوح بن أبي مَريم حكاهُ صَاحب التَّعلِيم. انظر: الجواهر المضية في طبقات الحنفية (١/ ٣١٨)، تهذيب التهذيب (٦/ ٣٣٤)، تهذيب الكمال في أسماء الرجال (١٨/ ١٢٥).
(٣) هو: الوليدُ بن أَبَانِ بنِ بُوْنَةَ أَبُو العبَّاسِ الأَصبهَانِيُّ الحَافِظُ، المُجَوِّدُ، العَلاَّمَةُ، صَاحِبُ (المُسْنَدِ الكَبِيْر) وَ (التَّفْسِيْر).
انظر: سير أعلام النبلاء ط الرسالة (١٤/ ٢٨٨)، رقم (١٨٣)، ذكر أخبار أصبهان: (٢/ ٣٣٥ - ٣٣٤).
(٤) هو إِسْمَاعِيل بن علي بن الْحُسَين بن محمد بن الحسن بن زنجويْه الرَّازِيّ أَبُو سعد السمان. انظر: الجواهر المضية في طبقات الحنفية (١/ ١٥٦) أورده (إسمعيل)، الطبقات السنية في تراجم الحنفية (ص ١٧٩).
(٥) انظر: المبسوط للسرخسي (٨/ ١٣٦).
(٦) قال الزيلعي في نصب الراية (٣/ ٣٠٠): غريب. وفي الوفاء بالنذر أحاديث منها: ما أخرجه البخاري (١١/ ٥٨٥)، كتاب الأيمان والنذور، رقم (٨٣)، باب النَّذرِ فيما لا يملِكُ وفي معصيةٍ، رقم الحديث (٦٧٠٠)، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر ان يعصي الله فلا يعصه». ا هـ ووافقه ابن الهمام، وقال ابن حجر في الدراية: (٢/ ٩٢)، رقم (٦٣٢) لم أجده.
(٧) الحديث عن عُقْبَةَ بن عَامِرٍ، يقُول: سمعتُ رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: " إِنَّمَا النَّذْرُ يَمِينٌ، كَفَّارَتُهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ "
حديث صحيح، لكن بلفظ: "كفارة النذر كفارة اليمين" رواه مسلم (٢/ ١٢٦٥) كتاب النذر، رقم (٢٦) باب في كفَّارة النَّذر، رقم (٥)، رقم الحديث (١٦٤٥)، وهذا إسناد ضعيف، ابن لهيعة سيئ الحفظ، لكنه قد توبع، وباقي رجال الإسناد ثقات رجال الصحيح.
انظر: مسند أحمد ط الرسالة (٢٨/ ٥٧٥) حديث عقبة بن عامر الجهني رقم الحديث (١٧٣٤٠)، وأخرجه الطبراني في "الكبير (١٧/ ٢٧٢) رقم (٧٤٦) من طريق أبي صالح الحراني، عن ابن لهيعة، بهذا الإسناد. وفي مسند أبي يعلى الموصلي (٣/ ٢٨٣) رقم (١٧٤٤). حكم حسين سليم أسد (المحقق): إسناده ضعيف.