للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قوله: (ولا بأس بأن ينفل الإمام … ) إلى آخره (١).

فَبهذا اللَّفظ يُعلم أنَّ ما قال البَعض: "وكلِمة "لا بأس" لنفي الشِّدة، واستعمالها إنَّما يكون فيما كان تركُه أولى" ليس بمجري على عمومه، بل قد تُستعمل هي في موضِع كان الإتيان به مستحبًّا؛ لأنَّ التنفيل قبل إحراز الغنيمة مستحبٌّ.

وذَكَر في المبسوط: "ويُستحب للإمام أنْ ينفِّل قبل الإصابة بحسب ما يَرى الصواب فيه للتَّحريض على القتال، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: ٦٥] " (٢).

وقوله: (من قتل قتيلًا) فيه تسميته الشيء باسم ما يؤوُل إليه، فكان هذا نظير قوله: تعالى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} [البقرة: ٢٨٢]، وقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: ٣٦]؛ لأنَّ قتل المقتول لا يُتصوَّر، فكان معناه: مَن قَتل رجلًا يؤول أمره إلى القتل؛ والفاء في (فيقول) للتفسير.

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: ٦٥]، فإن قيل: لِمَ لَم يكن التحريض واجبًا مع وجود الأمر، ومطلقُه منصرف إلى الوجوب؟ قلنا: في التَنْفيل ترجُّح بعض الغازي مع توهِين بعض الغازي الآخَر، فتوهِين المسلم حَرام خصوصًا في مثل هذا الوقت؛ ولأنَّ التَّحريض شيء مُبهَم، قد يكون ذلك بالتَّنفيل، وقد يكون ذلك بذكر ثَواب الآخرة، فَلو كان التَّحريض نفسُه واجبًا، لا يَلزم أنْ يكون التحريض المعيِّن للتنفيل واجبًا.

(ثم قد يكون التَّنفيل بما ذكر) وهو التنفيل بالسَلَب، (وقد يكون بغيره) نحو الذَّهب والفضة.

وفي الإيضاح: ويجوز التَّنفيل في سائر الأموال مِن الذَّهب وَالفِضَّة وغير ذلك. وكذلك يجوز في السَّلب، وغير ذلك نحو أنْ يقول الإمام: من قتل قتيلا فله سلبه، ومن أصاب شيئًا فهو له، أو قال: ما أَصبتُم فَلَكُم منه الرُّبع أو النِّصف (٣).

(إلَّا أنه لا ينبغي للإمام أن ينفّل لكل (٤) المأخوذ).

وذكر في السِّيَر الكبير: وإذا قال الإمام لأهل العسكر جميعًا: ما َأصبتُم فهو لكم نفْلًا بالسَّوية بعد الخُمس، فهذا لا يجوز؛ لأنَّ المقصود من التَّنفيل التَّحريض على القتال، وإنَّما يحصل ذلك إذا خَصَّ البعض بالتَّنفيل، وأمَّا إذا عمَّهم فلا يحصل به ما هو المقصود بالتَّنفيل، وإنما في هذا إبطال السُّهمان التي أوجبها رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، وإبطالُ تفضيل الفارس على الرَّاجل، وذلك لا يجوز. وكذلك [إذا كان] (٥) قال: مَا أَصبتُم فَلَكُم، ولم يَقُل بعد الخُمس فهذا لا يجوز؛ [لأنَّ] (٦) فيه إبطال الخُمُس الذي أوجبه الله تعالى في الغَنيمة، وإبطالًا لحقِّ ضعفاء المسلمين، وذلك لا يجوز، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" (٧) (٨).


(١) قوله: ولا بأس بأن ينفل الإمام في حالة القتال ويحرض به على القتال …
الهداية في شرح بداية المبتدي (٢/ ٣٩١).
(٢) المبسوط للسرخسي (١٠/ ٤٩).
(٣) ينظر بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (٧/ ١١٥)، العناية شرح الهداية (٥/ ٥١١)، البناية شرح الهداية (٧/ ١٨٠).
(٤) في (ب) "بكل".
(٥) ما بين المعقوفتين ساقط من (ب)،
(٦) في (أ) "لأنه".
(٧) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب، برقم (٢٨٩٦) ٤/ ٣٦.
(٨) ينظر السير الكبير (٢/ ٦١٥).