للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

واختلفوا في ذلك، قال علماؤنا -رحمهم الله-: الربا نوع بيع فيه فضل مستحق لأحد المتعاقدين، خال عما يقابله من عوض شرط في هذا العقد، وعلى هذا سائر أنواع [البيوع] الفاسدة؛ كالبيع بأجل مجهول، أو بشرط منفعة لأحد المتعاقدين، وما أشبه ذلك، من قبيل الربا بتقدير فضل مستحق خال عما يقابله من العوض المشروط، فكان معنى اللغة وهو الفضل معتبرًا (١).

وعند الشافعي -رحمه الله-: البيع هو التصرف المشروع بحده، والربا اسم جعل علمًا على تصرف ينشئه العبد لا على الحد المشروع (٢)، من غير اعتبار معنى اللغة فيه، بل صار يعرف استعمال الشرع موضوعًا لهذه الجملة، فعلى ما عليه قاعدة الخصم لا طريق لمعرفة البيع والربا إلا من جهة الشارع؛ لأن البيع هو التصرف [المشروع]، والربا ما ليس بمشروع، والمشروعية تتلقى من قبل الشارع، وعلى ما عليه قاعدة كلامنا صفة المشروعية تثبت لأصل البيع الذي كان متعارفًا بين أهل اللسان، فإن الله تعالى أثبت الحل للبيع، فانصرف إلى البيع المعهود؛ لأن اللام للتعريف، والربا مخصوص من هذه الجملة بإثبات وصف التحريم.

والدليل على حرمة الربا: الكتاب والسنة.

أما الكتاب فقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (٣)، وقد ذكر الله تعالى لآكل الربا (خمسًا من العقوبات أحدها) (٤): التخبط، قيل في معناه: ينتفخ بطنه يوم القيامة بحيث لا تحمله قدماه، وكلما رام القيام يسقط (٥)، فيكون بمنزلة الذي أصابه مس من الشيطان، فيصير كالمصروع الذي لا يقدر على أن يقوم.

والثاني: المحق، والمراد به: الهلاك والاستئصال، وقيل: ذهاب البركة والاستمتاع حتى لا ينتفع هو به ولا ولده بعد موته.

والثالث: الحرب.

والرابع: الكفر، قال الله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨)} (٦)، وقال: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦)} (٧)، أي كفار باستحلال الربا.

والخامس: الخلود في النار (٨).

والسنة جاءت بتأييد ما قلنا فإن النبي -عليه السلام- قال: «أكل درهم واحد من الربا أشد من ثلاث وثلاثين زنية يزنيها الرجل» (٩)، ومن نبت لحمه بحرام فالنار أولى به (١٠)، والمقصود من بيان كتاب البيوع بيان الحلال الذي هو بيع شرعًا، والحرام (١١) الذي هو ربا، ولهذا لما قيل لمحمد -رحمه الله-: ألا تصنف [لنا] (١٢) شيئًا من الزهد [في كتابك] (١٣)، قال: (١٤) قد صنفت كتاب البيوع (١٥)، ومراده بينت فيه ما يحل ويحرم، وليس [هذا] (١٦) الزهد إلا الاجتناب من الحرام، والرغبة في الحلال، ولهذا بدأ الكتاب بحديث رواه عن أبي حنيفة عن عطية العوفي (١٧)، وعن أبي سعيد الخدري (١٨) -رضي الله عنهم-، عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: «الذهب بالذهب مثل بمثل يد بيد والفضل ربا، والفضة بالفضة مثل بمثل ويد بيد والفضل ربا» (١٩)، وكذا عد الحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، على هذا الطريق، وهذا حديث مشهور تلقته العلماء بالقبول والعمل به.


(١) البناية شرح الهداية (٨/ ٢٦٠).
(٢) المرجع السابق.
(٣) [البقرة: ٢٧٥].
(٤) في (ت): خمس عقوبات أحدها.
(٥) في (ت): سقط.
(٦) [البقرة: ٢٧٨]
(٧) [البقرة: ٢٧٦].
(٨) المبسوط (١٢/ ١٠٩).
(٩) أخرجه أحمد في «مسنده»، المحقق: شعيب الأرنؤوط، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، ١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م، (٥/ ٢٢٥)، ورواه سليمان بن أحمد، أبو القاسم الطبراني، في "المعجم الأوسط"، المحقق: طارق بن عوض الله، الناشر: دار الحرمين - القاهرة، (١/ ١٤٢)، وأبو الحسن علي بن عمر الدارقطني في سننه (٢٩٥)، حققه وضبط نصه وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط، حسن عبد المنعم شلبي، عبد اللطيف حرز الله، أحمد برهوم، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى، ١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٤ م، وصححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها"، الناشر: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة: الأولى (١٠٣٣).
(١٠) أخرجه الإمام أحمد في المسند (١٤٤٤١)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (٤٥١٩).
(١١) الحرام، ضد الواجب، وهو ما ذم فاعله شرعًا. شرح مختصر الروضة لسليمان بن عبد القوي الطوفي الصرصري، أبي الربيع، نجم الدين، المحقق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، ١٤٠٧ هـ/ ١٩٨٧ م، (١/ ٣٥٩).
(١٢) ما بين المعقوفين زيادة من (ت).
(١٣) ما بين المعقوفين زيادة من (ت).
(١٤) في (ت): فقال.
(١٥) المبسوط (١٢/ ١١٠).
(١٦) ما بين المعقوفين زيادة من (ت).
(١٧) عطية بن سعد بن جنادة العوفيّ الجدلي القيسي الكوفي، أبو الحسن: من رجال الحديث. كان يعدّ من شيعة أهل الكوفة. خرج مع ابن الأشعث، ثم لجأ إلى فارس. واستقر بخراسان بقية أيام الحجاج، فلما ولي العراق عمر بن هبيرة أذن له في القدوم فعاد إلى الكوفة، وتوفي بها. الأعلام (٤/ ٢٣٧).
(١٨) سعد بن مالك بن سنان الخدري الأنصاري الخزرجي، أبو سعيد، صحابي، كان من ملازمي النبي -عليه الصلاة والسلام-، وروى عنه أحاديث كثيرة، غزا اثنتي عشرة غزوة، وله ١١٧٠ حديثا، توفي في المدينة، (ت ٧٤ هـ). الاستيعاب (٢/ ٦٠٢).
(١٩) أخرجه البخاري في كتاب البيوع- باب بيع الفضة بالفضة (٢١٧٧)، ومسلم في كتاب المساقاة- باب الربا (١٥٨٤).