للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وفرضيَّةُ أداء الشَّهادة أمرٌ وجوديِّ، فلابدَّ أن يكون مقتضى فرضيَّة الشَّهادة أمراً لا نهياً؛ لأنَّ بالنَّهي تثبت الحرمات التي مبناها على العدم، لا الأمورُ الوجوديَّة، والأمر المستفاد بضدِّ النهي لا يكون في القوة مثل الأوامر الثَّابتة بالعبادة في اقتضاء الفرضيَّة على القول المختار.

حيث قال في المختصر: وعلى هذا القول يُحتَمَلُ أن يكون النهيُ مقتضياً في ضدِّه إثباتَ سُنَّة يكون في القوة كالواجب، ولهذا قلنا: إنَّ المحرِم لما نُهِيَ عن لُبس المَخِيطِ كان من السنَّة لُبس الإزار والرداء، فعُلِم بهذا أنَّ الأمر المستفاد من ضدِّ النَّهي تثبيت السنَّة لا الواجب المطلق، فضلاً عن الفرض.

قلتُ: ذلك في النَّهي الذي لا يفوت الحرمَة الثَّابتة لصيغته عند استعمال ذلك الضِّدِّ؛ وذلك فيما إذا كان [للنَّهي] (١) أضداد، كالنَّهي عن لبس المَخِيطِ، فلا يتعيَّن عليه لُبسِ الإزار عينًا فرضاً، ولا لُبس الرداء عينًا فرضاً، وكالنهي عن القيام لا يتعين عليه وجوب القعود عينًا فرضاً، والاضجاع عيناً فرضاً، فإنَّ بكل واحدٍ منها يتحقَّق الانتهاء، ولا يقع في حرمة نهي القيام.

وأمَّا إذا كان النَّهي نهياً له ضدٌّ واحدٌ، يكون هو في اقتضاء افتراض الضِّد كالأمر الثَّابت بعبارته؛ بل يكون النَّهي حينئذٍ/ ناسخاً لإباحة الضِّدِّ؛ وذلك مثلُ قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} (٢)، فهو نسخٌ لكون الكتمان مشروعاً.

في وجوب حضور الشاهد إلى مجلس القضاء وامتناعه عن الشهادة. إنَّما كان هذا هكذا ليتحقَّق موجب النهي، فإنَّ الانتهاء عن الكتمان في قوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} (٣) لا يتحقق إلَّا بأداء الشَّهادة، فكان أداءُ الشَّهادة فرضاً قطعاً كفرضيَّة الانتهاء عن الكتمان؛ بل إيجاب الأمر الوجودي بصيغة النَّهي الذي ليس له إلا ضِدُّ واحدٌ أولى من إيجابه بصيغة الأمر، لِمَا مرَّ أنَّ الوجوب المستفادَ من صيغة النَّهي آكدُ من الوجوب المستفاد من صيغة الأمر (٤).

«ثم اعلم أنَّ وجوب أداء الشَّهادة على الشَّاهد فيما إذا كان قريباً إلى مجلس القضاء فظاهرٌ.


(١) في «ج»: [النهي]، والمثبت هو الصواب.
(٢) سورة البقرة: آية ٢٢٨.
(٣) سورة البقرة: آية ٢٨٣.
(٤) يُنظر: تبيين الحقائق (٤/ ٢٠٧)، الأنهر (٢/ ١٨٥).