للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأمَّا ما يرد في هذا إن كان واحدةً من الجملتين ههنا قائم بنفسها، فلا يقتضي الاشتراك، فجوابه يذكر بعد هذا في الأسرار.

«وهذا كما قال الشافعي (١) - رحمه الله - في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وَتَغرِيبُ عَامٍ» (٢): أنَّ تمام حد البكر للعطف؛ ولكن نقول هناك: التغريب لا يصلح أن يكون حداً؛ لما فيه من الإغراء على ارتكاب الفاحشة دون الزجر، وههنا ردُّ الشَّهادة صالحٌ لتتميم الحدِّ؛ لأنَّه مؤلم قلبه، كما أنَّ الجلد يؤلم بدنه، ففيه معنى الزجر.

ثم جريمة القاذف باللسان، ورد شهادته حداً في المحل الذي حصل به الجريمة، وذلك مشروع، كحدِّ السَّرقة، والمقصود من هذا الحد دفع الشَّين عن المقذوف، وذلك في إهدار قوله أظهر منه في إقامة الجلد عليه، فلذلك جعلنا رد الشَّهادة تتميماً للحد» (٣).

«ثم حرف النهي في قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً} لا يمنع العطف، فقط يعطف النهي عن الأمر، كما تقول لغيرك: اجلس ولا تتكلم» (٤).

«وأمَّا قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ليس بعطف؛ بل هو ابتداء بحرف الواو، وقد يكون ذلك لحسن نظم الكلام، لقوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (٥)، وقوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} (٦)، وبيان أنَّه ليس بعطف أنَّ قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ} أمرٌ بفعل، وهو خطاب [للأئمة] (٧)، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ}، نهي عن فعلٍ، وهو خطاب الأئمة أيضاً، وقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} إثبات وصف لهم، فكيف تتحقق المشاركة بينه وبين ما تقدم لتكون عطفاً.

والدَّليل عليه أنَّه لو كان هذا عطفاً لكان في هذا الحد أيضاً، فينبغي ألا ترتفع بالتَّوبة كما لا يرتفع الحدُّ، فلا تأثير للتَّوبة في الحد» (٨).

«يوضح ما قلنا إن رد الشَّهادة بسبب تتميم الحد، لا بسبب الفسق، هو أنَّ الثَّابت بالنَّص، وهو التوقف في خبر الفاسق، كما قال: {فَتَبَيَّنُوا} (٩)، والمنصوص عليه ههنا حكمٌ آخرُ، وهو الرَّد دون التوقف، فعرفنا أنَّه ليس بسبب الفسق، بل هو تتميم للحد كما قررنا، ولو كان رد الشَّهادة بسبب الفسق؛ لكان في الآية عطف العلة على الحكم، وذلك لا يحسن في البيان.


(١) ينظر: الحاوي الكبير (١٣/ ١٩٥)، نهاية المطلب (١٧/ ١٨٠)، المجموع (٢٠/ ١٦).
(٢) أخرجه: البخاري في صحيحه (٣/ ١٧١) كتاب الشهادات، باب شهادة القاذف والسارق والزاني، رقم (٢٦٤٩)، ومسلم في صحيحه (٣/ ١٣٢٤)، كتاب الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنى، رقم (١٦٩٧).
(٣) المبسوط (١٦/ ١٢٧).
(٤) المبسوط (١٦/ ١٢٧).
(٥) سورة آل عمران: آية ٧.
(٦) سورة الأعراف: آية ٢٦.
(٧) في «س»: [الأئمة].
(٨) المبسوط (١٦/ ١٢٧).
(٩) سورة الحجرات: آية ٦.